أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 30، 2017

صعود وأفول اليسار الإسرائيلي


تقوم فكرة المقال على أساس فرضيتين، الأولى: أن اليهود الإسرائيليين ليسو كتلة صماء واحدة متجانسة، وأن الإستراتيجية الصهيونية والفكر السياسي الإسرائيلي لم يكونا نتاج مؤامرة مرسومة بدقة، وبالتالي ما جرى ويجري منذ قيام الدولة العبرية حتى الآن من توسع وإستيطان وحروب وسياسات خارجية ليس تنفيذا حرفيا لهذه المؤامرة.. بل أن هذا الفكر تغير وتطور غير مرة، بين مد وجزر، وكان دوما يتأثر بجملة من الظروف الذاتية والمحيطة، وكانت تلك التغيرات على مستوى من العمق والتأثير لدرجة تستوجب الدراسة.. والأهم أنها كان ممكنا أن تتخذ مسارات أخرى مختلفة كليا.. والثانية: أن إسرائيل (الدولة والمجتمع) ليست بتلك الصورة النموذجية التي يتخيلها البعض، سواء من تفترسهم نظرية المؤامرة، ويبنون تحليلاتهم بناءً عليها، أم أولئك الذين يعتبرونها نموذجا للدولة الحديثة الناجحة، أو حتى الذين يعتبرونها شرا مطلقا.. وهي مثل أي مجتمع آخر؛ تعتريها الكثير من نقاط الضعف، وتتفاعل في داخلها تناقضات شديدة، وفيها من مظاهر الفساد ما هو أكثر مما ينشر في الإعلام بين فينة وأخرى.. دون التقليل من قوتها وحُسن تنظيمها..


ومثل أي مجتمع متنوع، ويعيش حياة حزبية و"ديمقراطية"، نشأ فيه تيارين رئيسين؛ يميني ويساري، وعلى جنبيهما وفي الوسط تشكلت أحزاب وكتل سياسية مختلفة.. ولفترة طويلة، هيمن حزبان كبيران على الحياة السياسية (العمل والليكود)، وتداولا السلطة غير مرة.. مؤخرا، تراجع هذين الحزبين، ولم يعد بوسع أي منهما الحصول على أغلبية في الكنيست، ونشأ على أنقاضهما أحزاب جديدة، وطرأت متغيرات عميقة على الساحة السياسية، وفي بنية المجتمع..

في هذه المقالة، سنركز على اليسار الإسرائيلي، كيف كان؟ وأين أنتهى به المطاف؟ ولماذا؟ وقبل ذلك، يتوجب التنويه بأن تصنيف الأحزاب الإسرائيلية إلى يسار ويمين تصنيف مضلل؛ فعلى صعيد السياسات الإجتماعية الإقتصادية، نجد أن أحزاب اليسار وبخلاف كل الأحزاب اليسارية في العالم تدافع عن اقتصاديات السوق والخصخصة، وتعمل على تقليص مخصصات الرفاه الاجتماعي. أما في الجانب السياسي فلا يختلف اليمين واليسار في تعاطيهما مع مسألة السلام مع الفلسطينيين والعرب، فهما وجهان لعملة واحدة.

ومع ذلك، من الخطأ تجاهل الفروقات بين المعسكرين، سيما وأنها تؤثر بشكل كبير على هوية الدولة ومستقبلها، وعلى حياة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وعلى احتمالات ومسارات التسوية السياسية..

كما يتوجب التفريق بين "اليسار" الذي أسس دولة إسرائيل، وقاد أهم معاركها، والذي مثّله تاريخيا حزب العمل (ماباي)، وبين القوى اليسارية التي ما زالت على هامش المجتمع الإسرائيلي.. ذلك "اليسار" الذي حكم إسرائيل منذ نشأتها وحتى مجيء الليكود 1977، كان ذا دور وظيفي، أكثر مما كان تيارا فكريا، تمثل دوره بتجميل صورة إسرائيل، أمام الرأي العام الدولي، بما في ذلك يهود العالم، من خلال المزج بين النظام الكيبوتسي والهستدروتي، والإدعاء بأن إسرائيل تنتمي للعالم الاشتراكي، والعمل على ترسيخ الاحتلال، وتبرير سياساته الكولونيالية والتوسعية، وتقريبها "ديماغوجيا" من فكر اليسار العالمي، إضافة للعمل على جذب المهاجرين اليهود والمناصرين لإسرائيل من الدول الاشتراكية والشيوعية.

وقد تم تصنيف حزب العمل في خانة اليسار لأنه نادى بالصهيونية الاشتراكية، (وهو عضو في الاشتراكية الدولية) مع أنه المسؤول الأول عن النكبة والنكسة، وهو الأب الروحي للمستوطنات، وبالرغم من خطاب السلام الذي يدعيه إلا أن ممارساته دوما ضد السلام. وبهذا لا يختلف عن اليمين الصهيوني الذي ينادي بأرض إسرائيل الكبرى.

وحتى ذلك الوقت؛ أي بداية التحول لليمين، كان حزب العمل وحلفائه امتدادا طبيعيا للحركة الصهيونية (التي بدأت علمانية/قومية)، وتنفيذا أمينا لفكرها التوسعي الاستعماري.. وبعد حرب تشرين، والتي أحدثت مفاجأة صادمة في الوعي الإسرائيلي، حمّل الإعلام مسؤولية الهزيمة للحزب الحاكم، الأمر الذي فتح المجال لحزب الليكود ليعوض الخسارة النفسية التي تسبب بها حزب العمل، وكانت تلك بداية التغيير.. بعدها أخذ اليسار بالتراجع تدريجيا، إلى أن دخل غرفة الإنعاش، ويكاد اليوم يلفظ أنفاسه الأخيرة..

في دراسة موسعة للباحث توفيق أبو شومر (شؤون فلسطينية، العدد 256)، بعنوان خطط تفكيك اليسار الإسرائيلي حتى العام 2017، اعتبر فيها اليسار الإسرائيلي الحقيقي يتمثل حالياً في القوى التالية:

يأتي في أقصى اليسار تيار "المؤرخين الجدد"، الذي انبثق فجأة من أرشيف إسرائيل، ويعتمد هذا التيارُ على مبدأ البحث في الملفات التي جرى الإفراج عنها مؤخرا، حيث شرعَ عددٌ كبيرٌ من هؤلاء اليساريين في إعادة اكتشاف الحقيقة، وعثروا على كثيرٍ من الحقائق، وهؤلاء يمثلون تيار ما بعد الصهيونية، هذا التيار الذي نشأ كرد فعل على مقولة "إسرائيل دولة يهودية"، يدعو لإعادة تفكيك المجتمع الإسرائيلي كجزء من الحداثة العالمية، بما يعني دحر العقيدة الصهيونية، وكشف الستار عن خبايا القضية الفلسطينية، المسكوت عنها، وفي الإطار ظهرت حركة يسارية أسسها "أوريل هالبرين"؛ هي حركة الكنعانيين، وهم الذين رفضوا هويتهم اليهودية، وغيروها بالكنعانية التي تضم المسلمين، والمسيحيين، واليهود، وكل الطوائف الأخرى.

ويرى "أبوشومر" أن أبرز مراكز اليسار حاليا تمثله ثلاثُ جامعات، هي جامعة حيفا، وتل أبيب، وبنغوريون، تأتي بعدها الأحزابُ السياسية، وعلى رأسها حزب ميرتس، وبعض منستبي حزب العمل، والقائمة المشتركة (المكونة من مجموع الأحزاب العربية، وأبرزها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة كإطار يضم قوى عربية ويهودية شيوعية)، وبعض اليساريين الإسرائيليين الوسطيين، ممن فضلوا الانضمام إلى حزب "هناك مستقبل"، بزعامة يائير لابيد.

ويضع "أبوشومر" في المرتبة الثالثة الجمعياتُ غير الحكومية، مثل جمعية، جنود يكسرون الصمت، وحركة السلام الآن، وجمعية بيتسيلم، وييش دين، وعير عميم، وزخروت، ونيو بروفايل، وجنود يرفضون الخدمة العسكرية، وغيرها من الجمعيات المحسوبة على اليسار.

أما في المرتبة الرابعة فيضع الإعلامُ والأدبُ والثقافة، وعلى رأس وسائل الإعلام تأتي صحيفة هآرتس، (والقناة العاشرة) وبعض الكتّاب والمؤرخين العلميين والفنانين التقدميين.

هذه المراكز اليسارية ظلت تشكل كابوسا لدى اليمين المتطرف، وكان لا بد أن تقوم المؤسسة السياسية والثقافية المكارثية بوضع الخطط لتحجيم دورها، تمهيدا لإقصائها، وإسكاتُها إلى الأبد.

عند رصد أسباب وحيثيات أفول اليسار الإسرائيلي، سنجد أمرين، الأول: عوامل وظروف موضوعية كانت تفعل فعلها بقوة داخل وخارج اليسار، والثاني: سلسلة الإجراءات والخطط التي تبنتها المؤسسة الرسمية لمحاصرة قوى اليسار وتفكيكها كليا..

بالنسبة للعوامل الموضوعية، اعتبر الباحث "صالح النعامي" أن التغيرات الديموغرافية والإثنية تأتي في المقام الأول؛ فمنذ تسعينات القرن الماضي أسفرت التغيرات الديموغرافية التي طرأت داخل إسرائيل عن تبلور ثلاث قطاعات سكانية، وهي: المهاجرون الروس، واليهود الشرقيون، والمتدينون، وهذه التجمعات تضم حوالي 80% من المستوطنين اليهود في إسرائيل. ولم تنجح قوى اليسار في اختراق هذه التجمعات، التي خضعت منذ البداية إلى تأثير النخب ذات التوجهات اليمينية.

وقد تبنى المهاجرون الجدد التوجهات اليمينية المتطرفة، رغبة منهم في التميز عن السكان القدامى، واتخاذ مواقف أكثر عنصرية تجاه العرب للتدليل على إخلاصهم للدولة، أما اليهود الشرقيون فيعتقدون أن الأحزاب اليمينية (الليكود، شاس) هي الأقدر على الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم خاصة ضد التمييز الطائفي. أما القوى الدينية فمن الطبيعي أن تنحاز ضد اليسار..

ورأى "النعامي" أن أهم عامل في تحويل الرأي العام الإسرائيلي للانجراف نحو اليمين، وإلى مزيد من التطرف هو اعتقاده أنه لم يعد هناك شريك فلسطيني في أي تسوية مستقبلية للصراع، متأثرا بذلك بالخطاب الإعلامي الرسمي، الذي تبناه "باراك" بعد فشل كامب ديفيد (تموز 2000). وقد واصلت الماكينة الإعلامية إقناع الجمهور الإسرائيلي بعدم وجود شريك للسلام، وبعدم جدوى العملية السياسية، وواصلت التحريض على الفلسطينيين، لدرجة صار مقبولا لدى الجمهور الإسرائيلي قمع الفلسطينيين بأي طريقة، الأمر الذي عمّق الخطاب اليميني، وأدى إلى مزيد من الانزياح نحو اليمين.

وحسب "النعامي"، ساهم الخطاب الإعلامي الرسمي والحزبي اليميني في ترسيخ مشاعر العنصرية تجاه العرب، وكانت النتيجة أن أحزاب اليمين نالت أغلبية الأصوات في جميع المدن المختلطة التي يقطن فيها عرب ويهود. فمثلا صوت اليهود في هذه المدن لصالح ليبرمان، بعد أن وعدهم بتجريد العرب من حقوق المواطنة.

وأيضا، أدت سياسات الخصخصة وتقليص مخصصات الرفاه الاجتماعي للجماهير  لزيادة شعورهم بعدم الأمان الاقتصادي والاجتماعي، الذي إزداد مع الأزمة الاقتصادية العالمية، مما دفعهم لليمين، حيث أن الجمع بين أزمة اقتصادية والشعور بعدم الأمن يولد شوقاً لوجود زعيم قوي يحل محل الديمقراطية. وهذه أفضل وصفة لتنامي قوة اليمين. فبسبب القيادة الفاشلة لإيهود براك وتجاهله التركيز على القضايا الاقتصادية، والتركيز بدلاً منها على الأمن، ساهم ذلك بانهيار شعبية حزب العمل.

وأضاف "النعامي" أن الحروب العدوانية على غزة فتحت شهية المجتمع الإسرائيلي لخيار القوة، فبعد ضرب نرجسية الجيش وتهديد المدن المتاخمة لغزة بالصواريخ، تولد شعور لدى الإسرائيليين بأن قادة اليمين يمكنهم التصرف في الحرب القادمة بشكل أكثر قوة وحسماً من اليسار ويسار الوسط. ومع انتهاء حروب غزة دون خسائر كبيرة في الجانب الإسرائيلي ترسخت قناعة الجمهور الإسرائيلي بأهمية عوائد الحرب، وهو ما فاقم التوجه نحو اليمين.

من ناحية ثانية أدى نفاق قادة اليسار وترددهم وإزدواجية خطابهم إلى تهاوي ثقة الجمهور الإسرائيلي بهم؛ إذ لم يعد الجمهور يلمس أية فوارق أيديولوجية أو سياسية ذات مغزى بين أحزاب اليسار واليمين. حتى الجمهور المنحاز تاريخيا لليسار بات مقتنعا أكثر بخواء شعارات اليسار، التي صارت تُستخدم لمنح الحصانة الإخلاقية لارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين، أو كمادة مسكنة لعذابات الضمير؛ فتحت شعار "تأييد السلام" صار أسهل عليهم التعايش مع الاحتلال، بكل ممارساته اللاإنسانية.

أما على صعيد الإجراءات والخطط التي تبنتها المؤسسة الرسمية؛ فقد جرت وفقا لمخطط مرسوم، وهو في الواقع، بدأ منذ وقتٍ مبكر، وتحديدا مع بداية تأسيس الدولة، فمثلا حورب أول رئيس للجامعة العبرية، "يهودا ماغنس" لأنه قال: "انقذوا اليهود من أنفسهم، لأنهم سيشعلون المنطقة حروبا"، واتُهم بالعمالة للبريطانيين حين طالب الرئيس الأميركي "ترومان" بألا يوافق على إقامة دولة لليهود، وكذلك تم التخلص من المؤرخ "إسرائيل شاحاك" وغيره ممن ناهضوا الصهيونية..  

وفي دراسة للباحث توفيق أبو شومر (شؤون فلسطينية، العدد 256)، بعنوان خطط تفكيك اليسار الإسرائيلي، استعرض فيها أهم الخطوات المتبعة لمحاصرة وتفكيك اليسار، فكتب: "ظل زحفُ التيار الحريدي متواصلا في شتى المجالات، ومنذ عقود عدة، حتى غزتْ سرايا الحارديم معقل اليساريين الرئيس: الجيش، وتمكن الحريديون من تأسيس كتائب وألوية تمارس طقوسها الدينية، وتسعى لاستبدال الأوامر العسكرية بأوامر ونواهي الشريعة اليهودية. وقد بدأت عمليات حردنة الجيش وتحويله إلى جيش ديني، بواسطة الحاخامية العسكرية، وهي شعبة التوجيه الديني، التي تتولى تغذية الجنود بدروس دينية، بهدف السيطرة على الجيش، وجعل القيادة بيد الحاخامات".

ويذكر "أبوشومر" إجراءات أخرى لإقصاء اليسار؛ منها تجفيف النظامَ (الكيبوتسي)، الذي لم يعد منه قائما اليوم سوى بعض الموشافات غير الملتزمة بمبادئ الكيبوتس التي كانت سائدة قديما.

ويتحدث "أبوشومر" عن دور المؤسسة الأمنية، فكتب: "كما تمكن جهاز الشاباك من تفكيك حركة "ماتسبن" باعتقال قادتها (وهي حركة اشتراكية شيوعية مناهضة للصهيونية، أسستْ عام 1962)، استخدمت نفس الأسلوب لتفكيك الحركات اليسارية في الأعوام المنصرمة، كما تحاول مع "بيتسيلم" الآن".

ويضيف "أبوشومر": من الإجراءات أيضا، استدعاء الأكاديميين اليمينيين القادرين على الرد على التيار اليساري، خاصة المؤرخين الجدد، وتيار ما بعد الصهيونية، وإقامة المؤتمرات العلمية في الجامعات، والتي انبثق عنها مؤتمرات هرتسيليا وطبريا.

أما أخطر الأسلحة، فهو لوبي الكنيست اليميني المتطرف، (بزعامة حزب البيت اليهودي) المختص بصياغة القوانين لمطاردة اليساريين، حيث صاغت الكنيست الحالية أكثر القوانين العنصرية، قوانين هدفها محو اليسار، وتنظيف الساحة الإسرائيلية منه.

أما السلاح الآخر فيتمثل في تسليم أحزاب اليمين أهم الوزارات: وزارة التعليم، ووزارة الثقافة، حيث تولّت الوزارتان ملف تصفية جيوب اليساريين في القطاعات التربوية والثقافية، بإيقاف موازناتها، بالإضافة لوزارة الإعلام التي يتولاها "نتنياهو" مايسترو جوقة إقصاء اليساريين.

وأيضاً، تم إنشاء العديد من الجمعيات اليمينية بأنظمة ولوائح داخلية خادعة، وهي مخصصة للرد على اليساريين، وتحريض الإسرائيليين عليهم، منها مثلا جمعية "احتياط"، وهي حركة مخصصة لمكافحة الــ(BDS)، وجمعية "إم ترتسو"، المختصة بمحاربة كل ناقدي إسرائيل في الجامعات الإسرائيلية، وجمعية "إلعاد"، المختصة بتهويد القدس، وجمعية "لافي"، المختصة بمنع تثقيف الجيش على قيم اليساريين المعمول بها منذ تأسيسه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق