أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 06، 2017

مجزرة رواتب غزة


اعتاد رئيس الوزراء السابق "سلام فياض" عقد اجتماعات دورية مع عدد من الكتّاب والصحافيين، بهدف الحوار المتبادل، وحصل أكثر من مرة أن طرح عليه بعض الصحافيين سؤال غزة: ما جدوى دفع فواتير غزة ورواتب موظفيها؟ وإلى متى؟؟ كان "فياض" يرفض بشدة طرح الموضوع من أساسه، ويؤكد على أن غزة خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه.. وهذه شهادة يتوجب عليَّ ذكرها اليوم، في ظل الأزمة التي افتعلتها حكومة "رامي الحمد الله" ضد موظفي قطاع غزة..


في مرحلة ما بعد النكبة مباشرة، مثّلت غزة الهوية الوطنية الفلسطينية، وحمتها من خطر التفتت والإلغاء، ذلك الخطر الذي كانت تتعرض له الضفة الغربية (في عهد الحكم الأردني) ومخيمات اللاجئين في دول الشتات.. وحملت نواة المشروع الوطني التحرري، وحمته من مشاريع الإذابة والدمج.. ومع أن حركة فتح بدأت إرهاصاتها الفكرية والتنظيمية في الشتات؛ إلا أن غزة كانت الميدان الفعلي لبدايات العمل الفدائي، وشكلت الحاضنة الشعبية التي قدمت أهم مؤسسي فتح، وأبرز بناة منظمة التحرير الفلسطينية..

وبعد نكسة حزيران بسنوات قليلة أدركت إسرائيل حجم المأزق الذي ورطت نفسها به باحتلالها غزة، وطالما تمنت أن تغرق في البحر، وظلت تنتظر الفرصة المناسبة للتخلص من كابوس غزة، فعرضت على مصر إدارتها، إلا أنها رفضت، ثم انسحبت من معظم أجزائها حسب اتفاق أوسلو، ثم انسحبت منها كليا ضمن خطة الانسحاب أحادي الجانب (2005)، لتأتي حماس وتبتلع الطعم بالتفرد بالسيطرة عليها، وسلخها عن الضفة الغربية..

وبعد عشر سنوات من الانقسام، وفشل كل جهود المصالحة، ومع إصرار حماس على إدامة سيطرتها على القطاع، وتعطيل عمل الحكومة، ورفضها إجراء الانتخابات العامة، وحتى انتخابات المجالس المحلية، أعلنت حماس تشكيل "لجنة إدارة القطاع"، في خطوة تدل على توجهاتها لتكريس الانقسام، والتي قد تصل إلى حد إعلان الانفصال.. ثم جاء قرار حكومة "الحمد الله" بخصم 30% من رواتب موظفي السلطة في غزة.. وهذا القرار قد يُفهم على أنه تماشيا مع توجهات حماس في حل سياسي سينتهي بسلخ القطاع وتسليمه لحماس.. كأمر واقع، وشر لا بد منه..

حسب قناعتي؛ حماس تتحمل المسؤولية الكبرى في الانقسام؛ إلا أن القيادة في رام الله لم تبذل الجهود الكافية لإنهاء هذه المأساة.. واكتفت بدلا من ذلك بإدارة الأزمة والتعايش معها.. وقناعتي أيضا أن البعض (وهم قلة) تعاملوا مع غزة كما لو أنها "حمولة زائدة".. وهنا فإن خطوة خصم جزء من الرواتب، تأتي في هذا السياق، والخطورة أن تتبعها خطوات أخرى خطيرة للتنصل من غزة تدريجيا.. وفي الاجتماع الذي عقدته كوادر فتحاوية في القطاع نوه المجتمعون إلى أن قرار الخصم جعلهم يشعرون أنه بداية انفصال حقيقي عن الوطن.

تبرر الحكومة قرارها "المجحف" بأن موظفي غزة لا يستحقون الحصول على "علاوات طبيعة العمل"، لأنهم لا يمارسون العمل كأقرانهم في الضفة.. علما بأن عدم التحاقهم بالعمل هو تلبيةً منهم لقرار الحكومة، وتعبيرا منهم عن رفضهم الانقسام، وعدم اعترافهم به وما نشأ عنه، وتمسكهم بالشرعية التي تمثلها السلطة الوطنية.. وطالما أن تعطلهم عن الالتحاق بالعمل جاء تنفيذا لقرار رسمي، فلماذا يعاقَبون على تمسكهم بالشرعية! ولماذا نجعلهم يدفعون ثمن الانقسام مرتين: من الحصار الإسرائيلي، ومن ذوي القربى!
وتقول الحكومة أنها أُجبرت على اتخاذ هذه الخطوة، بسبب تمادي حماس، وسطوها على الضرائب، إضافة إلى انخفاض الدعم الخارجي.. فإذا كانت الأسباب انخفاض الدعم الخارجي، والأزمة المالية التي تعاني منها السلطة، فلماذا لا تشمل هذه الخطوة جميع الموظفين في جناحي الوطن؟ ولماذا تحميل موظفي غزة أثمان ممارسات حماس؟ علما أن غالبيتهم جزء فاعل وأصيل ومهم من الحالة الفتحاوية! وعلما أن القرار لم يؤثر سلبا على "حماس"، بل العكس جاءها بمثابة هدية، والكادر الفتحاوي هو الذي تأذى، وهو الذي اعترض.
وإذا طال الاقتطاع موظفين دون غيرهم؛ أي ليس وفقا لاعتبارات مهنية، وإنما "جغرافية، ومناطقية"، فذلك يعني أن القرار لا يستند لأية مسوّغات قانونية، بل هو في هذه الحالة عبارة عن فضيحة سياسية؛ لأنه يفتقد للحساسية الوطنية في قراءة المشهد السياسي والحالة العامة، والمشاريع الخطيرة التي تُعد للقطاع.. ويفتقد للإحساس بالمسؤولية؛ لأنه لم يحسن تقدير الموقف، والنتائج الكارثية التي تترتب على قرارات من هذا النوع، في مثل هذه اللحظة التاريخية، خاصة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي ستطول عشرات آلاف الأسر، وتمس مختلف جوانب الحياة في القطاع.. رغم علم الحكومة بالحالة الصعبة، بل المأساوية التي تسود في القطاع على كل الصعد والمستويات.
من الواضح أن الحكومة لم تتشاور مع أي جهة قبل إعلان قرارها، خاصة قيادة فتح، والكتل البرلمانية، والأهم من ذلك أنها تجاهلت رأي الشارع، والمزاج السياسي والاجتماعي العام في البلد، وأصبحت تعتبر نفسها صاحبة الولاية والخبرة في كل شيء، رغم أخطائها الفادحة..
الحقيقة، إن الظلم الذي سيحلقه هذا القرار بموظفي السلطة في القطاع ينمُّ عن استهتار وخفة تجاه أهلنا في غزة، ويدل على أن الحكومة حين تتخذ قراراتها تكون في حالة انفصال عن الواقع، ومنهمكة في تفاصيل البيروقراطية بعقلية باردة، وغارقة في بحر أرقامها المالية دون الالتفات لحالة الناس، ودون أي حكمة سياسية.. ويبدو أن صناع القرار في وزارة المالية يمثلون هذه العقلية "الخطيرة"؛ لأنهم يتخذون قراراتهم بكل خفة، دون سند قانوني، أو إحساس بالمسؤولية، أو إدراك لتبعات قراراتهم الارتجالية، لأنهم دأبوا على حل الأزمة المالية العامة على حساب الفئات الضعيفة، أو بحل مشكلة فئة معينة على حساب فئة أخرى.. فكما تجرؤوا على التقسيم المناطقي، سبق أن اتخذوا قرارات من هذا النوع، كما حصل مثلا في التمييز بين المهندسين والمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين.. بشأن علاوة طبيعة العمل، وعلاوة المخاطرة..

يجب على الحكومة أن تتراجع عن قرارها، وأن تعتذر عن خطئها، ويكفي استهتاراً بالموظفين، ولقمة عيشهم، ويكفي تشاطرا على فقراء هذا الشعب، ممن يدفعون ضريبة البقاء والصمود فوق أرضهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق