أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 19، 2017

محاولة لفهم التجربة الإسلامية


تتعالى من حين لآخر، بنوايا طيبة لدى البعض، ولأغراض سياسية لدى البعض الآخر أصوات تنادي بضرورة العودة الى الإسلام الصحيح؛ وإلالتزام بصراطه المستقيم من أجل الخلاص.
فما المقصود بـ "الإسلام الصحيح"؟ سيجيب البعض على الفور بأنه القرآن والسنة النبوية؛ وهذا صحيح، ولكن تبقى معضلة فهم وتأويل القرآن والسنة، هل هو مجرد مفهوم طوباوي متخيَّل؟ أم هو نظرية مثالية عصيّة على التطبيق؟ هل هو فعلا يُجهِد النفسَّ بالركض وراء اللامستطاع؟ أم هو فهم يقدم الإسلام في منتهى البساطة والوضوح، مع الآليات التي تمكنه من الخروج من صفته النظرية إلى حيز الممارسة والتطبيق "الصحيحين"؟ وقبل ذلك، ما هو الدين؟ هل الدين نبيٌ وكتاب فقط، وأنموذج محدد تشكَّل في مرحلة تاريخية معينة؟ أم الدين ثقافة تراكمية متحركة، وعمليات تحول تاريخية اجتماعية سياسية تنضج على مر السنين؛ ولكن يبقَ مصدرها الرسول والكتاب؟ 

إذا كان الإسلام منظومة فكرية متماسكة وموحدة ومنسجمة مع نفسها ولا تقبل القسمة ولا تحتمل الاختلاف، فلماذا وكيف خرجت منه الفرق والطوائف والمذاهب والملل؟ وهل علينا أن نصدق كل من قال أنه يمثل الإسلام الصحيح؟
ليس كل ما يمارسه المسلمون هو من أصل الإسلام، وهذه بديهية، ولو اعتبرنا أن الإسلام هو ما يجسده سلوك المسلمين لظهر لنا دين مشوه، ولو أن جماعات التكفير والتفجير هي التي تمثل الإسلام، لكانت الطامة الكبرى، ولبدا دين الله الحنيف السمح على أبشع ما يكون.. ولكن حاشى لله، وسبحانه عما يصفون.

ولكن هل الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر مختلف تماما؟ إذا كان هذا صحيحا، فهذا يعني أن الإسلام دين نظري معلق في الفضاء، وحالة افتراضية حالمة تعيش في الفراغ وتتجسد على صفحات الكتب، وليس لها من ترجمة عملية حقيقية (مثالية) إلا في ما تحفظه الذاكرة عن حالة نموذجية  -كما لو أنها خارج سياق التاريخ - مثلتها تجربة النبي وصحابته في أوائل القرن السابع الميلادي (وحتى هذه الحقبة لم تسلم من الانتقادات والتشكيك).

وطالما أن الإسلام ليس فكرة خيالية حالمة، وليس فقط مُثل عليا وقيم أخلاقية مجردة.. وطالما أن التجربة الإسلامية على امتداد أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام لم تكن تشبه المدينة الفاضلة، وأن التطبيق الفعلي للإسلام كان مشوها وبعيدا عن جوهره في كثير من الأحيان، فأين هو الإسلام إذن؟!

باعتقادي أن المدخل السليم للإجابة على هذه التساؤلات، تكمن في فهم التجربة الإسلامية برمتها فهماً تاريخيا علميا، يمكنّنا من رؤية النزعات المادية واللمسات البشرية الكامنة في كل زاوية من زواياه، والتي كانت تظهر في كل مرحلة من التاريخ، وتتجلى بوضوح في لحظات الصراع والتشابك، وما أكثرها.. أي فهمه من خلال البيئات الاجتماعية والسياسية والظروف الموضوعية في كل مرحلة تاريخية تفاعل فيها المسلمون معه، وفهموه انطلاقا منها.

والحقيقة أن الإسلام من الناحية النظرية يشبه في مضمونه وجوهره كل الديانات السماوية والدعوات البشرية الطيبة الأخرى، وحتى دساتير الدول؛ حيث أن جميعها تدعو إلى الخير والعدل والفضيلة والمثل العليا، وتنبذ الشر والظلم والفواحش... بالرغم من أن الإسلام انفرد عن سائر الأديان وتميز عنها بجوانب كثيرة، ولكنا لسنا هنا بصدد إجراء أية مقارنة بين الديانات، بل ما نسعى إليه هو التأكيد على أن كل دعوة للخير والحق لها جانب نظري مثالي لابد أن يكون على أفضل وجه وأجمل صورة، ولكن تطبيقها على يد البشر لا يكون بنفس المستوى، وهذا طبيعي ينسجم مع طبيعة البشر القائمة على الخطأ والضعف؛ فالمُثُل العليا تصبح نداءات يصعب استجابتها إذا لم تكن مرنة وقابلة للتطور، وتمثل جزءا من تجربة حية وتفاعل ديناميكي مع البيئة التي تحيطها. وهذا التفاعل بين النظرية والتطبيق، أو بين الدين وأتباعه يمكّننا من فهم التجربة ضمن سياق تاريخي حقيقي، ويضع الأمور في سياقها الطبيعي، أي كتجربة إنسانية.

فلو نظرنا للتجربة الإسلامية بمنطق الفلسفة المثالية وبحثنا عن الجانب الإيجابي فيها فقط، سنجد الإنجازات والفتوحات وعدل "عمر بن الخطاب" وزُهد "عمر بن العزيز" وانتصارات "صلاح الدين"... ولو نظرنا للتجربة من زاوية أخرى سنجد مكر "معاوية" وظلم "الحجاج" ومجازر "أبو العباس السفاح" وجواري "الرشيد" وقمع الشيعة وتخلف العثمانيين... ولو بحثنا في الجانب النظري المتعلق بفهم النصوص وتأويلها، سنجد الخلافات والتناقضات بين الأزهر الشريف والنجف الأشرف وقُم ومكة المكرمة والزيتونة والقدس الشريف (وهي أهم المراكز الإسلامية تاريخيا)... ولو نظرنا للصراعات بين التيارات السياسية والفكرية التي برزت في صدر الإسلام سنجد المرجئة، الخوارج، المعتزلة، الصوفية، الأشعرية، الإباضية، الإثني عشرية، الزيدية.. ولو نظرنا للخلافات بين الفقهاء والتيارات الفكرية في العصر العباسي وما بعده سنجد ابن رشد والجاحظ والفارابي من جهة، والغزالي وابن تيمية وابن الجوزية من جهة ثانية، كما سنجد الفرق بين من يفهم الإسلام كأيديولوجية حزبية ونظام دولة، وبين يفهمه بأبعاده الروحية الخالصة، وكعلاقة خاصة بين العبد وربه.. أما اليوم فأوضح ما يمكن رؤيته: الصراعات والنزاعات بين تيارات وأحزاب الإسلام السياسي.. وفي النهاية قد نفقد البوصلة.

إذن، من أجل فهم التجربة الإسلامية فهما صحيحا، يتوجب أولاً أن ننزع هالة القداسة عن كل من لهم علاقة بها، بوصفهم بشر (يخطئون ويصيبون)، وأن ننظر لها كتجربة تاريخية، حتى لو كانت منزلة من السماء، لأن تطبيقها وتمثلها كان على يد البشر، وبالتالي فإنها ستخضع لقوانين التاريخ ونواميس الطبيعة، وسيسري عليها ما يسري على كل التجارب الإنسانية الأخرى، من تأثر بالبيئات والعوامل التي تحيط بها، بنفس القدر الذي تحدث فيه تأثيرا وتغييرا.

في هذا الإطار، سنجد من يرى أقوال جلال الدين الرومي الصورة النقية للإسلام، ومن يراها في فتاوى ابن تيمية.. وسنجد من يؤمن بالوهابية، ومن يصنفون "إسلاميين معتدلين"، أو "إسلاميين حداثيين".. وسنجد نموذج داعش الدموي، ونموذج حزب النهضة الديمقراطي.. الخلاصة أن كل ما سبق هو نتاج للتجربة الإسلامية، نبتت في بيئاتها الاجتماعية المختلفة.. وهي صور متعددة للإسلام.. لا يجوز لفئة أو تيار منها أن تدعي احتكار تمثيلها للإسلام، ولا أن تكفر الآخرين..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق