أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 06، 2016

مقاربة بين الحيوان والإنسان


في كتابه "تاريخ النشوء"، تابع العالم "هيوفارمون" نوعا من الديدان تعيش فوق أوراق الشجر، تأتي العصافير وتأكلها، ولاحظ كيف تتكيف مع ظروفها، وتوظف ذكاءها لتزيد من فرص نجاتها؛ حيث أخذت تلك الديدان تنقر نصل الورقة لتسقط وتنتظر حتى تجف وتتكور على شكل لفافة، فتختبئ بداخلها، لكن العصافير صارت تأكل الورقة مع الدودة، فما كان منها إلا أن صارت تنقر خمسة إلى ستة أوراق ثم تختبئ بإحداهن، لتضلّل العصفور الذي سيختبر عدة أوراق فارغة إلى أن يمل ويرحل.

ليست الدودة وحدها من يتمتع بالذكاء؛ الحمار إذا اقتاده صاحبه إلى الحقل، فإنه سيحفظ طريق العودة من المرة الثانية، الكلاب والدلافين وحيوانات السيرك المدربة تقوم بحركات ومهارات نظن أنها مستحيلة، كل الحيوانات تقريبا تتصرف بالشكل الصحيح عند مواجهتها للأخطار. وهناك عشرات القصص الحقيقية التي تناولت هذه المواضيع.

وإلى جانب الذكاء غير المتوقع؛ فإن للحيوانات صفات أخرى نبيلة، مثل الوفاء والإخلاص، والتعفف عند الشبع، والحنان والرعاية تجاه الأبناء، النظام والترتيب.. ولن نعدد المزيد حتى لا يظن البعض أننا منحازون للحيوانات، وأيضا لن نذكر الصفات السلبية للحيوانات كالهمجية والافتراس والغباء.. ذلك لأنها حيوانات؛ ولا يُفترض بنا أن نرفع سقف توقعاتنا منها.

الإنسان، كرّمه الله سبحانه، وميَّزه بالعقل، ومع أنه أمضى خمسين قرنا من التاريخ المدون، وأكثر من عشرة أضعافها في رحلته نحو الأنسنة، وبالرغم من بنائه المدن، وامتلاكه التكنولوجيا، وإدعائه أنه متفوق على سائر المخلوقات بالذكاء والأخلاق والقيم؛ إلا أنه في كثير من الأحيان يرتد إلى بهيمية مفرطة، ويسلك سلوكا عنيفا مثل أي وحش مفترس؛ بل أن بعض تصرفاته تعود إلى زمن انفصاله عن الرئيسيات العليا.

بثت "ناشيونال جيوغرافيك" برنامجا وثائقيا عن أكثر عشرة حيوانات عدائية، والمقصود بها العداء والاقتتال بين الحيوانات من نفس الفصيل. ويستعرض البرنامج مشاهد مرعبة ومروعة من الصراع والتشابك بالقرون والمخالب والأنياب، في نهايتها تسقط الضحية مضرجة بدمائها.. لنتأكد من حجم غبائها ووحشيتها، وقد لاحظنا أن صراع الحيوانات التي جاءت في المراتب الأخيرة يدوم لفترة وجيزة، سرعان ما ينقضي بمجرد زوال أسبابه، والتي هي في الغالب إما صراع على مناطق النفوذ، أو لزعامة القطيع، أو الاقتتال في مواسم التكاثر على أنثى معينة. وكلما اقتربنا من المرتبة الأولى يزداد الصراع شراسة وقوة ويطول أمده وتتعدد أسبابه. وقد جاءت الشمبانزي في المرتبة الأولى الأكثر وحشية؛ حيث تخوض حروبا فيما بين قطعانها تدوم لسنوات طويلة وأحيانا تستمر للأبد، وأسبابها تكون الانتقام والثأر وإقصاء الخصم وطرده من المنطقة كليا.

وعلى ذمة "دارون" فإن الشمبانزي والإنسان انفصلا قبل ملايين السنين عن سلف مشترك، وحسب علماء الأحياء فإن الشمبانزي هو الأقرب للإنسان من الناحية الوراثية (98% من (DNA) متشابهة بينهما)، فهل هذا يعني أن الحيوانات كلما اقتربت بصفاتها الوراثية من الإنسان تصبح أكثر وحشية وعدائية!! لنستذكر قول الله سبحانه عندما أخبر الملائكة بأنه سيخلق الإنسان، فأجابوه: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"!!

إذا كنا نشمئز من منظر الحيوانات وهي تؤذي بعضها، وتتقاتل بكل ما أوتيت من عنف، وننظر إليها بإشفاق واستنكار لمدى الغباء والقسوة الذي تظهره تجاه بعضها البعض.. وهي مجرد حيوانات تتمتع بذكاء غريزي محدود، ولا تعرف المدنية والقوانين والمنطق؛ أليس الأجدر بنا أن نشفق على الإنسان، وقد أظهر في سلوكه من الغباء والعدوانية والقسوة ما يفوق أشرس الحيوانات!؟ وخاض صراعات شديدة ومريرة، هي في حقيقتها لا تختلف بأسبابها ودوافعها عن أسباب صراع الحيوانات..
ولو استعرضنا بعجالة سلوك الإنسان منذ أن وُجد على هذي الأرض تجاه بني جنسه، أو تجاه بيئته، سنصل لنتيجة مفادها بأنه مازال يحمل في جيناته مورّثات تعود لجذوره وأصله البدائي، وأنه كان طوال الوقت يخضع لغرائزه (الحيوانية)، والفرق الوحيد أنه كان وما زال يمارس عدوانيته بقناعة وعن وعي، ويوظف ذكاءه وأدواته بما يخدم نزواته ورغباته وحاجاته، ودون أي شفقة في بعض الأحيان.
الإنسان البدائي كان يتكتل بشكلٍ غريزي على شكل جماعات، مثله مثل بقية الأساسيات العليا؛ حيث يساعده  ذلك على الصيد ويوفر له الحماية، وهو سلوك جماعي مرتبط بغريزة الخوف، ومع الوقت تحول هذا السلوك الغريزي إلى ظاهرات اجتماعية مهدت الطريق لتشكل الجماعات، ما يعني أن أشكال الانتماءات الحالية والتي يدافع عنها أصحابها باستماتة وتعصب، هي في جوهرها سلوك غير مبرر لظاهرة كانت مبررة في مراحل سابقة. وهذا يعني أيضاً أن كل الصراعات التي خاضها الإنسان (من أقدسها حتى أكثرها خِسّـة) إنما كانت لغرضين: الاستجابة لغريزة التملك والسيطرة، والاستجابة لغريزة الخوف، وكل ما في الأمر أنه ظل يغلفها بهالات القداسة، ويجددها بالشعارات الكبيرة.
وفي تجربة علمية لإثبات همجية البشر، قامت فنانة صربية تدعى "ماريَّنا ابراموفيك" سنة 1974 بخوض تجربة عملية بنفسها، لتتعرف أكثر على تصرفات البشر إذا مُنحت لهم حرية اتخاذ القرار تجاه الآخرين بدون شرط ولا تبعات.. فوقفت بمفردها لساعات متواصلة دون حراك، وأتاحت للناس أن يفعلوا بها ما يريدون، في بداية الأمر كان رد فعل الجمهور سلمي؛ ولكن بعد فترة وجيزة تأكد لهم أنها لن تقوم بأي رد فعل مهما كان تصرفهم تجاهها، فأصبحت تصرفاتهم أكثر عدوانيه؛ منهم من صفعها، ومن مزق ملابسها، أو تحرش بها، وحين تحركت فجأة فـرَّ المعتدون. فبرهنت أن البشر مستعدون لارتكاب أفعال شنيعة وعدوانية، دون مبرر، ولكن فقط إن أُتيحت لهم الفرصة، وأمنوا العواقب.
وأحيانا كل التفسيرات العلمية والفلسفية تقف عاجزة أمام بعض سلوكيات البشر، خاصة في فترات الحروب والأزمات؛ حيث ترى أغلب الناس يتخلون عن ذكائهم ويتنازلون عن إنسانيتهم، وينجرون كالقطيع خلف شخص موتور، أو فكرة غيبية، ويغلّبون انتماءاتهم وهوياتهم الضيقة على انتماءاتهم الإنسانية. والبعض يلجأ للعنف بشكل يفوق ببشاعته ما تمارسه أعتى الوحوش، وبذكاء يقل عن ذكاء الدودة والعصفور في صراعهما على البقاء.
أعتقد أن من فجر نفسه في الكرادة وقبالة المسجد النبوي، أو في أي مكان آخر لا ينطبق عليه تصنيف إنسان ولا حيوان..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق