أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 17، 2016

50 سـنة مضت


في الغد، سأنهي العقد الخامس من عمري، ولأول مرة، سأختبر إحساس "رجل في الخمسينات" .. يا إلهي، يبدو لي الأمر مرعبا على نحو ما .. غدا تماماً، سأفتح سيل الأسئلة المؤجلة دفعة واحدة، سأجعلها تغمرني كليا .. لا بأس، فقد انتظرتْ بما فيه الكفاية، وآن لها أن تقلع من جاذبية الخوف، وأن تتحرر من سطوة التابو، وأن تنهمر مدرارة كالمطر ..

عبر هذه الرحلة التي قد تبدو طويلة جدا، لكنها قصيرة لدرجة مثيرة للشفقة، كان العمر يمضي بي، مسرعاً، يحملني يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى حتى أصل إلى المستقبل؛ المستقبل الذي ظل يركض أمامي، وأنا ألحق به، وكنتُ كلما أمسكت به لبرهة، أفلتَ مني على الفور، لأركض خلفه من جديد .. عشت حياتي هكذا، كما لو أنها معضلة، استنزفت كل طاقاتي لحلها ..


في بحثي عن المعرفة، كنت أبحث عن فراغٍ لأملأ به توازني، لأعرف مدى جهلي، أطرحُ الأسئلة المحيرة، وأنتظر الإجابات، لا لأعيش في ظلها، مطمئنا؛ بل لأشكّك فيها، لأدعها تلد أسئلة أخرى .. كنتُ أحرر أحلامي من جاذبية الأرض، وأطلق خيالي إلى ما وراء الفضاء الفسيح، خلف الأماني الكبيرة، فإذا خفتُ عليه أن يتوه، أعيده إلى فضائي الصغير.

في داخلي "وحدة وصراع الأضداد" .. تناقضات غريبة، ونداءات خفية، وأصوات كثيرة متداخلة تنادي عليَّ، وخرائط جديدة تدعوني لزيارتها، وأخرى تعمل على نبذي .. أشباح تطاردني، وأعداء ظننتُ أني هزمتهم .. أصدقاء رحلوا، وآخرون سيأتون .. ليرحلوا مرة أخرى .. لم أكن مشتتا، كما كنتُ أراني في لحظات التيه، كنتُ أرى ما أريد، بوضوح يعوزه اليقين، لأن اليقين سيعني نهاية المطاف ..

في هذا الجزء الصغير من العالم، وفي هذه اللحظة المتناهية في الصغر، عشتُ لعبة الحياة .. أفنيت عمري، محاولاً بدء حياتي كل مرة؛ مع هاجسٍ يلاحقني: كيف لي أن أبدأ ؟ كيف لي أن أعوّض في خريف العمر ما ضاع في أوّله ؟ وإلى أين سأنتهي؟

هل كنتُ بحاجة لمن يرشدني عن حقيقة وجودي وغايتها ؟! هل حقا أنا موجود ؟ أم أني مجرد صورة متخيَّلة، تتراءى لي أحيانا في المرآة، وأحيانا أخرى في خيالي، وأحيانا كثيرة في عيون الآخرين، وكلامهم ؟؟

اليوم، ربما أكون قد انتهيت من أسئلة طالما حيرت كثيرين: من منا عاش حياته كما تمنى تماماً ؟!  بلا أخطاء، بلا عثرات، بلا أحزان .. تقريبا لا أحد .. ومع ذلك، عشتُ صديقا وفيا لقلبي، ورفيقا مشاكسا لعقلي، ومتصالحا مع نفسي.. تعلقتُ بشدة بالأمكنة التي جبتها، وبالأسماء التي اقتحمت حياتي، وبالذكريات ..

اليوم، ما عدت قادرا على الركض في أزقة الحارة، لكني لم أفقد شغفي، صرت أركض في أزقة الحياة، أخبئ نفسي عن القدر حينا، وأحاول رسمه على طريقتي أحيانا أخرى .. أتحايل على ضعفي، أنحني للريح تارة، وأفتح صدري له تارة أخرى .. وكلما سبرتُ أغواري اكتشفت هشاشتي ..

أحيانا يغمرني إحساس ثقيل، بأن التقدم الوحيد الذي أحرزه ... هو التقدم في العمر. وأحيانا أخرى كثيرة يغمرني الفرح؛ فأنسى من فرط فرحتي، أن هناك عمرا ينساب من بين أصابعي ..

حاولتُ مراراً تفكيك لغز الكون؛ لأعي أين أنا. وبحثتُ كثيرا عن مكمن السعادة؛ لأرسم خارطة للطريق .. وكنتُ كلما تعبت ألمح طيفكِ قادماً من البعيد .. مثل حزمة ضوء آتية على مهل، لتبدد غموض المعنى، وتمدني بأسباب الدهشة، بسخاء كبير .. 
    
في الجانب المضيئ من الكوكب، قبالة الشمس تماما، التقينا .. وفي دفئها وتحت فيّها، نما حبنا .. عشنا عمرا كاملا لحنيْن في أغنية .. عشنا أحلامنا وأوجاعنا وأفراحنا مناصفة .. تقاسمنا الهواء، والضحكات .. في البدء، كانت حياتي سطورا خُطَّت على صفحة ماء؛ ثم صارت معكِ نقشا على رخام .. معكِ فقط أشعر أني ارتويت من الحياة، وأن الحياة أعطتني كل ما أتمنى ..


في صباي كنتُ أحسبني إستثنائيا، وطالما تعلقت بتصورات وهمية عن الوجود، والعلاقات، ثم أدركت أن أهم تجربة في الحياة؛ أن تختار شريكة العمر بعناية، ثم تهيم فيها عشقا .. وأن أجمل درسٍ فيها؛ أن تحب الحياة، وأن تشكر الخالق على نعمتها؛ لأنها الباقية، ولا شيء بوسعه أن يوقفها؛ فهي مثل شجرة باسقة؛ من بذرة الحب بزغت، وعلى أضلاع الموت المخبأ في الأحزان تغذت، فنمت وأورقت، وراحت أغصانها تعانق النسيم، وتتحدى الرياح .. لذا قررت أن أظل منفتحا على الحياة؛ بارتباكاتي، وأحلامي الجسورة، ودهشتي المتجددة، وبعشقي الكبير .. إلى أن أنجو منها .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق