أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 25، 2016

الإنسانية، تجمعنا


لو قُيّضَ لأبي الأسْود الدؤلي أن يحيا من جديد، فندعوه لسماع محاضرة في جامعة القاهرة (بالعربية الفصحى) عن الأزمة الاقتصادية العالمية، أو المشاركة في ورشة عمل في الرياض عن التغير المناخي، أو حضور ندوة في دمشق عن مذاهب الفن المعاصر .. سيفغر فاه على مداه متعجبا، وسيقطب حاجبيه منكدا، وسيغادر على الفور محتداً، وسيتّهمنا بالتآمر على لغته التي سهر الليالي وهو ينقّطها ويشكّلها؛ لأنه حتما لم يفهم علينا شيء ..

ولو جمّدنا "ستيفن هوكنج" في ثلاجة تبقيه في غيبوبة دون أن يموت، ليستيقظ بعد خمسة قرون مثلا، وطلبنا منه أن يتجول في مدن المستقبل، ويقدم لنا تقريرا عن مشاهداته، والمتغيرات التي حصلت هناك، من شبه المؤكد، أنه لن يستوعب أغلب ما يجري من حوله، ولن يفهم إنكليزية هؤلاء القوم، ومفرداتهم الغريبة، حتى المترجم سيبذل جهودا جبارة في تبسيط المصطلحات وشرح المفاهيم الجديدة ..


منذ كان كلّ البشر هُم سكان قريةٍ صغيرة في مكان ما في الهضبة الإفريقية قبل نحو مائتي ألف سنة، إلى أن تجاوزوا المليار السابع. ومنذ أن بدؤوا مغامرتهم المجنونة بالانتشار في أصقاع الأرض ومهادها إلى أن غطوها تماما: من مضيق "ماجلان" إلى مضيق "بيرنغ"، حتى صاروا مائتي دولة منتشرة في ست قارات. ومنذ كان كل همهم الصيد وجمع الثمار، والاحتماء من وحوش البراري، إلى أن بنوا أعتى الجيوش، وصاغوا مئات الأيديولوجيات والنظريات الاقتصادية والفلسفية والمذاهب الفكرية. ومنذ عصور الطوطم، حتى ظهور الأديان والمذاهب والطوائف. ومنذ بدؤوا النقش على الحجر، وحتى النقش على "الكيبورد". ومنذ أن تعلموا الكلام بأصوات بدائية، حتى صار لديهم مئات اللغات ... من العصر الحجري حتى عصر الحضارة الإنسانية ..

لو اخترنا بشكل عشوائي أي مجموعة منهم من أي بقعة من بقاع الأرض، أو من أي حقبة زمنية، لوجدنا لغة مشتركة تجمعهم؛ سيفهمونها بفطرتهم ومشاعرهم، سيتفاعلون فيما بينهم بأحاسيسهم ونداءاتهم الداخلية، سنجد في أعماقهم الابتسامة، والدمعة، والضحكة، والخجل، والانكسار، والتعاطف، والقلق، والشغف .. سنجد الحب والأمومة والصداقة، سنجد العائلة والجيران والأقارب، سنجد الهموم والأحلام والأحزان متشابهة .. سنجد نفس التفاؤل عند كل صباح، ونفس الرجفة أمام الموت، ونفس اللهفة على القادم، والشوق للغائب، والحنين إلى الذكريات، ووصايا الآباء للأبناء، نفس الاستسلام للموسيقى، والإنبهار أمام الجَمال، والحيرة في لحظات التيه، والخوف من العتمة، والرغبة في الرقص في لحظات الانفعال، ورفض العنف .. وسيعبّرون عنها بطرق مختلفة ..

مهما اختلفت ألواننا، وتعددت أدياننا، وتنوعت طوائفنا، وأسماء بلداننا، وتعارضت مذاهبنا وانتماءاتنا؛ لدينا ما يجمعنا، ويوحدنا .. فقط، لو غلّبنا الإنسان الساكن في أعماقنا، لو استخدمنا عقولنا قليلا .. لو آمنا بأن الله خلقنا لنحتفل بالحياة، ونعمّر الأرض، ونحب بعضنا بعضا .. حينها ستختفي الخرائط، وستنمحي الحدود، وستغيب الفوارق الوهمية .. وربما نتمكن من إلغاء الحروب والصراعات، ووقف آلة الموت والدمار، وتجاوز كل أشكال الكراهية، والكف عن محاولاتنا المحمومة في التحكم والسيطرة واستغلال بعضنا البعض.. وربما أمكننا أيضا إنقاذ كوكبنا مما يحيط به من أخطار وكوارث ..

من جيل إلى جيل، ومن بيئة إلى أخرى، وعير زمن طويل على امتداد هذا العام الفسيح تغيرت المعطيات، والأدوات، والمفاهيم، والقيم ... ولكن الإنسانية ظلت خيمتنا الأثيرة .. تجمعنا وتوحدنا ..

تغيرت معالم العالم، وتطور معه الإنسان، وبقي جوهره الخيّر، لكن مشكلتنا المزمنة في وجود المتعصبين، أصحاب الأفق القصير، الذين يروا الكون من منظارهم الضيق، ويحكمون على ثقافات الشعوب الأخرى وفقا لمعاييرهم الخاصة، مشكلة هؤلاء أنهم تلقوا تربية أحادية، تتمحور حول الذات، ولا ترى الآخرين، ولا تفهمهم، بل تعمد إلى تشويههم، وتعتبر كل من لا يشبههم عدواً لهم، يعتقدون أنهم الوحيدون في هذا العالم، وأنهم متميزون .. ذلك لأنهم عاشوا في مجتمعات مغلقة، تتغنى بالشعارات النرجسية، التي تصل إلى مستوى العنصرية أحيانا، جعلتهم أُناساً معزولين عن حراك الحضارة الإنسانية وتفاعلاتها الحيوية.

هؤلاء هم مرض العالم المزمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق