أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 08، 2015

حدث في الصين ..


قبل نحو عشرة سنوات، كنتُ في رحلة دراسية في الصين، هناك على ضفة نهر "يانغتسي"، في مدينة "نانجين"، التقيتُ بالدكتورة "جوهانغ لي"، مديرة البرنامج التدريبي، وهي سيدة في الخمسينات من عمرها، متخصصة في علم الاجتماع، وفي أول جولة في أرجاء المدينة الشاسعة وقفنا أمام تمثال نصفي لعجوز بلحية طويلة ناعمة، منقوش على قاعدته كتابة بلغة "الماندرين"، لم أفهم منها شيئا بطبيعة الحال، لكني قرأت الرقم 501 B.C، كنا مجموعة من الطلبة من بلدان شتى، فسألتنا الدكتورة: هل يعرف أحدكم من هو صاحب التمثال ؟ فأجبتها بتردد: إنه "كونفوشيوس"، حكيم الصين، فقالت مبتسمة: يبدو أنك صاحب ثقافة واسعة. سعدتُ بهذا الإطراء مع تظاهر بالتواضع، ولم أرغب بالاعتراف لها أنني رأيت صورته في مجلة سياحية في السفارة الصينية برام الله، وأني لا أعرف عنه شيء. المهم أن هذا الحوار المقتضب فتح المجال لأن تتوطد علاقتي بها على مدى شهر تقريبا.

كنتُ أعبّر لها عن انبهاري بنجاح التجربة الصينية؛ فتقول لي: أنتم لم تروا اللوحة، إلا بعد أن اكتملت، لم تروها حين كانت خطوطا مبعثرة. فأقول لها: إذن، كانت مسيرة شاقة وصعبة. فتقول: بل كانت مريرة وفاشلة .. ثم تصمت عن الكلام .. فأقرأ في عينيها ما تخبؤه من كلام لا يُقال ... فتقول بحزم: لا تنخدع بما تشاهده من حريات وليبرالية؛ ما زلنا ممنوعين من التعبير .. ثم تضيف بحسرة: هذا الجيل الجديد لا يعلم شيئا عن الآلام التي عاناها آباؤهم ..
صرنا في كل مرة نفتح مواضيع جديدة، ونبني مدماكا آخر من الثقة، إلى أن قررت أن تبوح لي عن سرها الدفين .. وأن تلفظ أوجاعها دفعة واحدة، بعد أن ظلت تعذب ذاكرتها سنين طويلة .. أرادت أن تحكي عن أيام الجوع والبرد، عن الخوف والقهر، والإغتيالات والإعدامات العشوائية ... جرّت تنهيدة طويلة، ثم صمتت لبرهة، وقالت:
كانت أمي طبيبة، تخرجت من كلية "مانشيستر" بإنجلترا، في الوقت الذي كانت مدينتنا تخوض حربا أهلية بين الكوميتاج والشيوعيين، وكان "شينغ كاي شيك" قد بدأ حملة إعدامات بحق معارضيه طالت عشرات الألوف، ومن بينهم جدي، وثلاثة من إخوته، وحين عادت أمي، كانت البلاد بأسرها قد دانت لِ"ماوتسي تونغ" ..
تضيف باسترسال: كانت أمي متضاربة المشاعر حيال "ماو"؛ تارة تصفه بالزعيم والأب، وتارة بالمستبد .. لكن ذكرياتها عن تلك الأيام مفعمة بالحزن والأسى، أرادت أن توثق تلك الأحداث، أن تسكب دموعها على الورق، فكتبت مذكراتها بالإنجليزية؛ لعلمها أن مخبري الحرس الأحمر لا يعرفون إلا اللغة المحلية، وبالفعل، ذات مرة، عثروا على جزء منها أثناء حملة تفتيش قلبوا خلالها البيت رأسا على عقب، وحين سألها الجنود عنها قالت لهم: "إنها محاضرات طبية تلقيتها أثناء دراستي" .. ومع ذلك أتلفوها .. ولحسن الحظ كانت قد خبأت معظمها في صندوق دفنته في فناء البيت، وقد ظل مدفونا خمسة وثلاثون عاما، حتى استخرجته أنا قبل أربع سنوات، ومن يومها وأنا أعيش حالة من القلق.
تصمت "لي" لبرهة، وقد بدت مترددة، وعلى وشك اتخاذ قرار خطير، ثم حسمت أمرها وقالت بنبرة آمرة: سأصور لك نسخة من أوراقها، ولكن أرجوك، إذا رغبت بنشرها فلا تذكر الأسماء الحقيقية.
في اليوم الأخير، بعد انتهاء المحاضرات توجهتُ لقاعة الاستراحة، وجلست أنتظرها، دخلت "لي" ببطء، وتحت إبطها "فايل" رمادي تحمله بحرص واضح، جلسنا قبالة النافذة المطلة على مجموعة من أشجار "البونساي" المقزمة، ارتشفنا الشاي الأخضر، وتبادلنا حديث الوداع، التفتتْ يمنة ويسرة، وبحذر ناولتني إياه، وفي عينيها رجاء وحيرة .. وفي لحظات كانت قد تلاشت كغيمة صيف.
حملتُ كومة الأوراق كمن يحمل كومة جمر .. خفت أن يكتشفها موظفوا المطار .. ومع ذلك قبلتُ بالمغامرة، والحمد لله أن موظفي الجمارك كان جل همهم هو الوزن الزائد، والتحف المهربة ..
عدت إلى رام الله، ونسيتُ الأوراق، ونسيت "جوهانغ لي"، ومذكرات أمها السرية .. وانشغلت بعوالمي الصغيرة .. في العام الماضي، تذكّرتها، أمضيتُ الصيف وأنا عاكف على قراءتها، وترجمتها. 85 صفحة، مليئة بالأحداث والقصص المرعبة والتفاصيل التي تقطر ألما ودما، أوراق مبعثرة، كُتبت بخط اليد، وأكثرها بدون تواريخ، بعضها مهترئ فظهرت صورتها مشوشة يتعذر فهمها، ورقة وحيدة كُتبت على الحاسوب.. شعرت أني أتحمل مسؤولية ما تجاه هؤلاء الضحايا، وأن صوتهم يجب أن يصل، فعملت على تلخيصها، وسأعرض عليكم أهم ما جاء فيها، مرقمة لا على التعيين:
(1)
 نانجين، عاصمة الجنوب، يا مدينة الموت والأنهار، يا مدينة الفقراء والفرص المهدورة، بعد أن فقدتِ ربع مليون من أبنائك الطيبين في ساحة واحدة في يوم واحد على يد اليابانيين، ثم فقدتِ بعد عقد واحد مثل نصفهم في الثورة، ها أنتِ اليوم تودعين صغارك جوعى وخائقين ..  أما آن لك أن ترتوي من دمنا !! ألم تكتفي من حفلات الموت الرهيب !!
آذار 1969
(2)
"منذ سنتين أطلق "ماو" ثورته الثقافية، أو ثورة البروليتاريا الكبرى كما كان يحلو له تسميتها، في بيانات الحزب وخطابات الزعيم تحددت أهدافها باجتثاث ممثلي البرجوازية، وتنقية الحزب من الاختراقات ومن الانتهازيين، ومحاربة لأفكار الرجعية. هنا من عيادتي الصغيرة أشاهد آلاف الشباب وقد انضموا للحرس الأحمر، وأسمع أن ملايين الناس من سكان المدن اقتيدوا إلى الريف ليتعلموا الحياة الزراعية من الفلاحين وليزرعوا محاصيلهم حسب طريقة "ماو".
وحقيقة الأمر، فإن هذه الثورة قد مزّقت المجتمع الصيني، وأدخلتنا في أتون الحرب الأهلية، حتى لو اعتبرها البعض تجربة اجتماعية فريدة، ومحاولة لتحطيم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد محله، وحتى لو رآها آخرون اجتهاد خاطئ بنوايا صادقة، هي برأيي المتواضع ثورة فوضوية لتصفية المعارضة، وتأكيد سلطات "ماو" المطلقة".
 نيسان 1968.
(3)
منذ بداية العام الحالي، بدأت معالم المجاعة بالظهور، أخذت البضائع تنفذ من الأسواق شيئا فشيئا، قوات الحزب صادرت محاصيل الفلاحين لصالح الثورة، رفوف المحلات بدت خاوية، حتى الخوابي وخزائن المطابخ فرغت تماما .. ويوما بعد يوم، تزداد معاناة السكان، من لديه بقرة أو دجاجة ذبحها، ومن في حاكورة بيته بعض الخضار حصدها .. أخذ الجيران يسطون على بعضهم البعض، ولكن خلال أسبوع واحد توقفوا عن ذلك، فلم يعد هناك ما يجدوه ..
أينما اتجهت، لا ترى سوى الفقر والجوع وأمراض سوء التغذية، وجوه عابسه حزينة، مكسورة الخاطر، يائسة .. بدأت الأجسام بالنحول والذبول .. لم يتبقى منها سوى هياكل عظمية، تمشي على هون، وعلى غير هدى ..
المجاعة الرهيبة تجتاح البلاد، ملايين المواطنين قضوا نحبهم، الأمر الذي دفع بمعظم العائلات وخاصة في الأرياف أن تختار واحدا من أبنائها - في أغلب الأحيان كان الولد الأكبر - بحيث تخصص له النـزر القليل مما لدى العائلة من طعام حتى يجتاز المجاعة وينجو بحياته، بينما أخوته الإناث يمتن جوعا أمام ناظري أهاليهن دون أن يكون بمقدورهم عمل شئ سوى النحيب... يرونهن يضمرن رويدارويدا، وبطريقة معذبة، إلى أن يلفظن شهقات أرواحهن الأخيرة".
تموز 1968
(4)
في هذه الأيام العصيبة، يخيم شبح الموت على المنزل، وعلى الأحياء المجاورة، لا شيء في الأفق سوى الجوع والوهن .. ثم الرحيل الكئيب، خرجت الناس إلى الحقول القريبة، وإلى البراري البعيدة، ولم تجد سوى شتلات متناثرة من الأعشاب البرية، فأكلتها، اصطادوا الحشرات والزواحف، حتى انقرضت تقريبا، كان الشتاء شديد البرودة في تلك السنة، فمن نجا من الجوع تجمد من الصقيع ..
ورغم الموت الجماعي الذي طال الملايين في الأرياف؛ ما زالت الحكومة تنكر وجود مجاعة، وسائل الإعلام تتجاهلها، والبوليس يقمع من يتحدث عنها .. والعالم الخارجي لا يدري بنا، أو أنه مشغول بشؤونه الخاصة، أو متواطئ .. لم تصلنا أي مساعدة ..
بيانات الحزب تتحدث عن إعادة الاعتبار إلى العمال وتنتقد البيروقراطية المترهلة، وتدعو لإرسال الموظفين إلى الريف لإعادة تثقيفهم، وممارستهم للنقد الذاتي، وتعميق الشعور الطبقي لدى الكادحين !! الفقراء يتساءلون بسذاجة: أين "ماو" ووعوده بالخلاص، وبالقفزة الكبرى ؟ هل يعلم بمأساتنا ؟ رغم حضوره في كل التفاصيل، ما زال مصرا على رؤيته وفلسفته .. ومع ذلك، بدأ الناس يتهامسون في الخفاء عن عصابة الأربعة التي تقودها زوجة الزعيم.
أيار 1968
(5)
الجوع الذي يفضي إلى الموت، ليس كمثله شيء، إنه الذل والهوان، وانكسار الأمل .. حينما قرأت عن مجاعة "أوكرانيا" التي حدثت قبل نحو أربعة عقود، تخيلت أن الموت يداهم الناس بسرعة، ويريحهم من عذابهم، لم ألتف للتفاصيل الصغيرة المختبأة في ثنايا الفاجعة .. لم يخطر ببالي أننا سنختبر نفس المأساة .. والمفارقة المفزعة أن المجاعتين تشتركان بنفس الأسباب ..
معظم الجيران اختاروا ابنهم البكر (الذكر) وخصوه بما يحصلون عليه من بقايا طعام، وهذه الطريقة الفظيعة لمواجهة الموت ربما انفردت فيها الصين، هل هي تحايل على الفناء، وتهريب الحياة للجيل الجديد ؟! أم عقلية ذكورية بالغة القسوة ؟ أم هو حكم المضطر الذي عدم كل حيلة ؟؟ بالنسبة لنا رفضنا هذا الأسلوب، لم نستوعب فكرة تحمل مرارة التخلي، كان زوجي "تشين لي" يخرج من الصباح الباكر، يجوب الأسواق والمزارع الخربة وحقول الأرز باحثا عن أي شيء يصلح للأكل، فيما أمضي نهاري مع بناتي الثلاثة في انتظاره .. نحاول النوم ولكن دون جدوى، نعلق عيوننا على آخر الطريق في انتظار عودة الغائب، يحدونا أمل غامض بأنه سيعود محملا بوجبة دسمة .. يأتي آخر المساء في يده نبتة برية، غالبا من فطر "عش الغراب"، أو علبة "تونا" سرقها من مخازن الحزب، وأحيانا يصطاد عصفورا أو سحلية، وأحيانا يأتي فارغ اليدين .. نقسم طعامنا بيننا بصمت، ونتهيأ لانتظار يوم جديد ..
الصغيرة "ديان لي" لم تتحمل كل هذا الألم، خانها جسدها النحيل، ورحلتْ في العام الأول، بعد أن اشتدت عليها الحمّى، دفناها في مقبرة جماعية مع عشرات الأطفال. الوسطى "جينا" تأخرت قليلا .. قاست آلام الجوع والحرمان بأكثر مما تتحمله صبية مراهقة، أراها تذوي أمامي وتذبل مثل زهرة منسية، وفي كل آخر ليل بعد أن تنام من شدة الأنين، أجلس قبالتها بصمت، آكل قطعة من كبدي، أسكب على خدها دمعة ساخنة، وأجهش في بكاء مرير ..
في عيد منتصف الخريف، وكان من المفترض أن تجتمع العائلة في حفل بهيج، كما جرت العادة، إلا أن القدر اختار لنا حفلا من نوع آخر، قبيل الظهر، دخلت "جينا" في غيبوبة، كانت قد خسرت أكثر من نصف وزنها، حملتها في حضني، أخذت أمسح وجهها بالماء، وأغني لها ترنيمة الحصاد، بصوت تشرّب أحزان الكون ... تفتح عينيها ببطء فأبتسم لها .. رأيتها تسحب أنفاسها الأخيرة، بعد أن كدست في صدرها روائح البيت، وبقايا أمل لم يتحقق، أخذت معها كل احتمال للفرح، وأغلقت نوافذ عمرها .. ومضت .. ساد صمت طويل أرجاء البيت، لم يقطعه سوى حشرجات روحها الأخيرة وهي تغادرنا بهدوء ..
تجرعنا مرارة الفقد، بكيناها بحرقة، وبكينا حالنا بأسى.. وقبل المغيب، بأنفاس متقطعة، وأيدي مرتجفة حملناها إلى مثواها الأخير ..
أيلول 1968
(6)
لم يتبقى لنا سوى "جوهانغ لي"، بعد أشهر قليلة من وفاة "ديان" أخذت الأمور بالتحسن .. جلبت الحكومة معونات غذائية، وسمحت للفلاحين بزراعة أراضيهم وبيع محاصيلها، وصرنا نأكل وجبة معقولة كل يوم، طبق من الأرز .. وبدأت "جوهانغ" تستعيد شيئا من عافيتها، لكن زوجي "تشين" كان قد هده التعب والهزال، اكتشفت فيما بعد أنه كان يتحايل علينا ويدخر حصته من الطعام، الأمر الذي عجل بموته، مع نهاية العام بدت لنا تلك الأيام الفظيعة كما لو أنها كابوس، وذكرى أليمة نرغب بنسيانها .. لكن البيت صار خاويا، كئيبا، وقد علقت على جدرانه صور من فقدناهم ..
"جوهانغ" .. هي الدافع الوحيد الذي جعلني أتمسك بالحياة ..
تشرين ثاني 1969


(7)

نعم، تجاوزنا المحنة، وفي السنوات القليلة القادمة ستستضيف "بيجين" دورة الألعاب الأولمبية، وستقيم "شانهاي" حفلا خرافيا لمعرض الأكسبوتيك، وفي كل يوم أفتح ثلاجتي وأجدها مليئة بأشهى المأكولات .. أحاول أن أنسى ذلك الفصل الكئيب من حياتي، نزولا عند رغبة حكومتي الموقرة .. لكني أريدكم أن تتذكروه جيدا ..
مع خالص محبتي

جوهانغ لي – نانجين – حزيران 2005.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق