أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 17، 2015

صديقي العراقي القديم


حين اقتحمنا عقد العشرينات، مدفوعين بعنفوان الشباب، هيّأ لنا خيالنا الجامح أننا اكتشفنا العالم بأسره؛ فقد انفتحت علينا مكوناته دفعة واحدة، وما علينا إلا أن ننهل منها، لم نكن نعلم ما تخبئ لنا الأقدار، ولكن، سرعان ما بدأت أرواحنا البريئة تصطدم بعوالم جديدة غريبة، لم يخطر ببالنا حينها أن هذا الكوكب يحتوي كل هذا الشر .. وكل هذا الجمال ..
هناك في الطرف الغربي من بغداد، في يوم شتائي بارد، وصلتُ "كلية الزراعة" بعد الغروب بقليل، قال لي حارس البوابة ستجد في القسم الثالث غرفة 39 طلبة فلسطينيين، تعرّف عليهم .. صبيحة اليوم التالي أتى دافئا، وقد أخذ ينثر شمسه بين الشوارع والساحات والحدائق الغنّاء، وجدتُ في تلك المساحة الصغيرة كل ما يحلم به شاب مقبل على الحياة: فضاء رحب وأصدقاء كُثُر .. كانت البلاد بخير؛ تصحو مبكرا لتلتقط النهار من أوله، ولتعيشه بكل تفاصيله.

مضت الأيام مسرعةً، تاركة خلفها طيف صورٍ تتوارى خلف الأفق شيئا فشيئاً، وصدىً لأغنيةٍ حزينة، وسحابة ذكريات، وكما جئنا فرادى تفرقنا فرادى، وأوغل كلٌ منا في عالمه الخاص؛ منهم من ذاب في لوعة الحنين، ومنهم من طار كنفثة دخان، ومنهم من غاب في دهاليز النسيان، ومنهم من تسلل إلى أعماق الذاكرة .. بعض من ظل حياً في الوجدان، راسياً عند ضفاف الروح،كنخلة بصراوية باسقة، وكبرتقال ديالى، ومثل ربيع نينوى، وشمس بغداد .. صديقين حميمين، ظللت ذكراهما ندية تبلل القلب كلما جففته السنون .. غزوان، وفراس ..

عصفت بالبلاد أحداثٌ جسام، تفرق الناس شيعا ومذاهب، مزقتهم الحروب والفتن .. وانقطعت أخبار صديقيّ ..

في لقاء لي مع "جراح"، الذي سيصير من أمراء السلفية، قال لي بنبرة حزينة: فراس استشهد في الحرب الأولى على العراق. عشتُ على هذا الخبر الأليم سنين طويلة، تخيلتُ موته بألف طريقة، سألتُ عنه كل من يعرفه، سمعت عنه حكايات كثيرة، منهم من قال أنه قُتل في انتفاضة 1991، ومنهم من قال أنه تسلل إلى إيران ومنها إلى تركيا وهناك اختفت آثاره، ومنهم من قال أنه مفقود في سجون النظام، ومن قال أنه قضى تحت ردم بيته حين قصفت أمريكا بغداد 2003، ومن قال أنه تمزق أشلاءاً في تفجير عشوائي في شارع السعدون، ومن قال أن الميليشيات الطائفية خطفته عند مدخل "بلدروز" وأنه مات تحت التعذيب، ومن قال أن لصوصا أردوه وهو في طريق عودته إلى منزله في  "السيدية" مع بقية ركاب الباص.
كتبتُ عنه في إحدى القصص: "يوم زرت "مندلي"، وهي آخر مدينة عربية تقع في أقصى شرق العراق وضحية من ضحايا الحرب المجنونة، وكانت يومها أكواماً من الردم والشوك وأطلالاً مهدمةً، دُفنتْ تحت حجارتها ذكرياتٌ وحكايات، كنتُ يومها بصحبة "فراس غائب"، هل كانت مصادفة أن اسم شهرته "غائب"؟ هذا الصديق الذي كنت أمنّي الروح بلقائه كل عام، كلما اشتاقت روحي له أقول لها: لعلّي أراه هذا الصيف، وعندما سألت عنه كان الجواب فاجعة: مات منذ تسع سنين في أثناء الحرب الأهلية .. كنتُ عازما أن ألقاه في أيلول القادم، ولكني جئت متأخرا ... جداً ".
وحين كتبت قصة "نهاية سريعة لحلم طويل" سميت بطل القصة على اسمه، وكذلك في قصة "مندلي" ..
سبعة وعشرون عاما من الغياب، هي ثلث العمر تقريبا، وفي زمن سحيق كانت حياة كاملة لإنسان طبيعي، كل هذا الوقت وأنا أقتات على ذكرى بعيدة، على أمل أن تكون المسألة تشابه أسماء، أو تكون الأخبار التي وصلتني عنه كاذبة، ففي الحروب الكل يكذب ..
قبل أيام، وجدتُ في بريدي رسالة قصيرة: أنا غزوان، بحثتُ عنك كثيرا، وأخيرا وجدتك، هل يا ترى ما زلت تذكرني ..
ومثل ماء راكد تلقى ضربة من حجر، بدأت دوامات الذكريات تعصف بي، وتحملني بعيدا، إلى تلك الأيام، غزوان يا شقيق الروح، كيف أنساك ؟! لم أصدّق عيني وأنا أقرأ الرسالة .. أعدت قراءتها مرارا وتكرارا، ثم اتصلتُ به، كان صوته دافئا، هادئا، يبدو أن المفاجئة كانت صادمة لكلينا .. تحدثنا طويلا .. استعدت لجهتي العراقية بلا وعي، فرحت به كثيرا، ليس لنجاته وحسب؛ بل لأن الحرب لم تنل من روحه، ولأن ضحكته لم تفقد بريقها المرح.
وبحذر يشوبه الخوف، سألته عن فراس، ثوانٍ قليلة مرت وأنا مرتعب بأن تكون أجابته حاسمه .. فراس مات من زمان .. لكنه قال بثقة: التقيت به آخر مرة قبل سبع سنوات، زرته في منزله القديم في مندلي، ثم تقطعت بنا السبل .. لكني سأعثر لك على رقمه .. كانت فرحتي بالخبر لا توصف، كمن استعاد كنزه المفقود ... إذن، فجميع الأخبار التي قبل هذا التاريخ خاطئة، وهو حي يرزق، وربما صار له أولاد، ورمم بيته المهدوم، وربما يفكر بي الآن .. لكن سبع سنوات في بلد اختبر كل أصناف الموت لا تعطي أي ضمان بأنه ما زال على قيد الحياة، وإذا كان دائم التنقل بين بغداد ومندلي في مسافة تتعدى الثمانون ميلا، تتحدث بخمس لغات، وتضم كل الطوائف المتنازعة على احتكار الرب، وكل العصابات التي احترفت السطو .. فإن فرص نجاته تتقلص كل يوم ..
لطالما تساءلت مع روحي: لمَ كل هذا الشوق ؟ أم هو حنين للماضي الجميل !؟ ولماذا غزوان وفراس بالذات ؟ كل أصدقائي العراقيين طيبين، وأتوق لرؤيتهم، لكنهما ليسا صديقين عاديين؛ هما روح العراق، وأصالته، وغده الذي تعثرت ولادته، وشمسه المختبأة خلف الضباب، هما الروح العصية على الانكسار، التي سمت فوق الطائفة، وسخرت من الحرب والمتحاربين ..
قبل يومين، حملتُ هاتفي النقال، وأغلقت باب الغرفة على نفسي حتى لا أخنق انفعالاتي، ومثل عازف مرتبك أخذتْ أصابعي تدق على الأرقام، كنتُ خائفا أن يكون الرقم لفراس آخر، أو أن تجيبني زوجته "جزائر" بصوت يقطر أسى: إذا كان لك ديْنٌ على المرحوم فسوف نسدده لك بالكامل .. أو يجيبني صوت غاضب: عيني هذا الرقم اشتريته من فراس بدل سيارتي اللي دعمها .. وبذلك أعود لضياعي وحيرتي .. بدأ الهاتف في الطرف الآخر يرن .. ومع كل رنة يخفق قلبي بصوت أعلى ..
-     آلو .. آلو ...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق