أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 11، 2015

حياة معلقة بين جنازتين


يقول الروائي "عاطف أبو سيف" عن غزة "إنها إمرأة بعمر التاريخ، لكنها لم تتمتع بشبابها يوما ما"، فقد ظلت تعاني، ولم تنعم بالاستقرار بفعل الحروب وتواليها وتداعياتها، ولذلك كان من شبه المتعذر أن توجد فيها أمكنة ثابتة لبناء ذاكرة تصنع رواية، ولأن تغير الأمكنة على الدوام يجعل منها مجرد ذكرى وتاريخ، فإن هذا الأمر يصعِّب المهمة على الراوي؛ ومع ذلك في روايته الأخيرة التي وصلت إلى القائمة القصير لجائزة البوكر، نجح "عاطف" بكتابة رواية متكاملة عن غزة، قدم من خلالها سردا تاريخيا وسسيولوجيا لمرحلة من أهم وأخطر المراحل التي مر فيها القطاع، وتمكن ببراعة من تبديد العلاقة الملتبسة بين الرواية والواقع، ولكن بأسلوب شيق، وبلغة أدبية راقية، دون أن يقع في فخ السرد التاريخي النمطي، كما عبَّر عن رؤيته الإنسانية ببساطة ودون شعارات.


ربما أن حياة عاطف نفسها هي بشكل ما انعكاس لواقع الحياة في غزة؛ فقد كان فتى يافعا حين سقط "حاتم السيسي" بجواره في جباليا، كأول شهيد في الانتفاضة الأولى، ليفتتح بدمه دورة جديدة للتضحية، وصفحة مشرقة من صفحات الكفاح الوطني الفلسطيني، ثم كبر عاطف بين أزقة المخيم، وتحت سماء أحلامه التي أوصلته إلى إنجلترا ليتخرج من جامعاتها، إلى أن منعته حماس من مغادرة القطاع لحضور حفل تكريمه في الدار البيضاء.

الرواية ملحمة مجتمعية تصف منحنى الصعود والهبوط الذي سلكته غزة في العقود الثلاثة الماضية، وقد رسم عاطف من خلال شخوصه مرحلة صعودها منذ منتصف التسعينات حتى اندلاع انتفاضة الأقصى، ثم مسيرة انحدارها بعد ذلك، حتى كادت أن تصل الحضيض في ظل الانقسام والحصار. فغزة التي عرفت المسارح ودور السينما قبل النكبة، لا توجد فيها اليوم صالة سينما واحدة، ولا أي مسرح .. الملتقى الثقافي الوحيد فيها (الجاليري) دمرته شرطة حماس.

وقصة غزة كما رواها عاطف تشبه قصة جدته "عيشة" التي تمثل الحكاية الفلسطينية ذاتها، فهي التي عاشت أيام العز في يافا، وهي التي صفعت زوجها على خده في المقهى وأمام الناس حين علمت بزواجه عليها، وهي التي شهدت النكبة والتهجير، حين وجدت نفسها فجأة قد خسرت بيتها لتسكن في خيمة تعصف بها الريح في مخيم جباليا.

في رواياته الأربعة السابقة ظل عاطف يتحدث بلسان أبطالها، أي بضمير الأنا، في هذه الرواية يتحدث بضمير الغير، حيث يعتلي تلة ما في القطاع، ويطل من عليائها على كامل المشهد، يغوص في أعماق التفاصيل ويربط خيوطها معا، يجمع بتمكن مدهش بين الفردي والجمعي، يخلق شخصياته من الواقع، ويحركها برشاقة، وهي شخصيات نمطية تجدها في كل زقاق وشارع في غزة، أحداث الرواية رغم فظاعتها أحيانا وبساطتها المدهشة أحيانا أخرى، لا تصل إلى مستوى التخيل المستحيل، لكنها تعكس خيالا خصبا وقدرة عالية على التشخيص الدقيق، ومن خلالها يمكن الولوج إلى عوالم يسمع عنها الكثيرون ربما لأول مرة.

بطل الرواية (الذي يموت في الصفحة الأولى) هو نعيم، صاحب مطبعة، دأب أيام النضال السري على طباعة منشورات المقاومة، وفي سنوات الانتفاضة تخصص في طباعة ملصقات الشهداء، إلا أنه ذات صباح عادي جدا، وبينما كان يهم بفتح مطبعته أصيب برصاصة من قناص إسرائيلي قتلته على الفور. ونعيم كان قد وُلد في الحرب (نكبة العام 1948) وها هو يموت في حرب أخرى، وكأن حياته معلقة ما بين حربين.

ابنه سليم المقيم في الخارج، يرفض أن يتحوّل والده إلى مجرد ملصق، وينخرط في نقاش طويل مع نصر، ممثل النضال الشبابي المتحمس في الرواية، حول معنى ومغزى البطولة والتضحية التي لم يخترها والده، معتبرا إياه ليس بطلاً؛ بل ضحية. أو أنه رفض اختزال حياة الشهداء في بوستر، حتى لا يتم التعاطي معهم كأرقام، أو مجرد كلمة أو شعار على جدار. ومن خلال هذه الحوارات وغيرها ينفتح المخيم على أزماته، وتظهر التناقضات بين الشخصيات المختلفة، التي تعكس طبيعة التطورات والتحولات الكبيرة التي حصلت في غزة على كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وغيرها، بدء من مرحلة الاحتلال إلى حكم السلطة، وأخيرا عهد حكم حماس.

يبرز الكاتب الجانب الإنساني للحياة والموت في غزة، فمثلا كان نعيم يحتفظ بالصور الأصلية لكل شهيد، ينظر إليها بتمعن، ويحدق في وجوه الشباب الذين كانوا على موعد وشيك مع الموت وهم لا يعلمون، يسيل دمع صامت من مقلتيه وهو يقرأ في عيونهم أحلامهم، ويتخيل مصائرهم الحالية فيما لو قُدِّر لهم النجاة.

وقد شبّه عاطف بحرفية قضية البطولة والحياة في غزة بمثلث ضلعه الأول يمثل البطولة، والضلع الثاني صورة الضحية، والضلع الثالث الحياة العادية الطبيعية، وفي مركز هذا المثلث المتوتر يدير عاطف شخوص روايته وحيواتهم المعلقة بين أضلاعه التي تشدهم في الاتجاهات الثلاثة.

أراد عاطف القول بأن من يمارس الحياة في غزة، إنما يمارس بطولة مفروضة عليه، دون أي فرصة للإختيار، كما هو حال نعيم الذي وجد نفسه شهيدا وبطلاً رغم أنفه. وأراد القول أن غزة ليست فقط غرفة أخبار عاجلة، إنما هي أيضا مدينة طبيعية تحاول أن تحيا حياة عادية رغم كل ما ألمَّ بها، وأن البطولة تكمن في القدرة على الحياة لا في الموت. شخوص الرواية يتأرجحون بين طموحاتهم الشخصية المشروعة، التي قد تكون مجرد أحلام شديدة البساطة، أو مشاريع سفر، وبين الواقع الصعب والقاسي الذي يولد الشعور بالإحباط، ليس بفعل الاحتلال والحصار وحسب، بل وأيضاً بسبب الاضطهاد المجتمعي والتخلف.

ويختار عاطف رمزا للتحولات الاجتماعية والسياسية تمثل في "تلة" تقع في المخيم وتختصر تاريخه: حيث بنى عليها الإنجليز أيام الانتداب نقطة عسكرية، وإليها وصل أوائل اللاجئون، وهناك احترقت خيامهم، وهناك أيضا أقامت إسرائيل مركز سيطرة عسكرية، وهناك أيضاً قتلت المقاومة ضابطا إسرائيلياً، وبعد أن تحررت التلة أقام عليها نعيم مطبعته، وعليها سكن الحاج خليل وابنته يافا. والتلة بهذا المعنى هي أفق المخيم الجميل، ينظر الأهالي إليها، فتمدهم بطمأنينة غامضة.

ظلت التلة مركز قصص البطولة بكل مبالغاتها التي وصلت حد الأساطير، إلى أن ظهر العميد صبحي الذي تحول من فدائي إلى ضابط في حكومة حماس، في إشارة إلى حالة من التساوق مع المظاهر الدينية، أو الانهزام أمام السلطة، جاء يحمل قراراً يقضي بهدم البيوت على التلة واستثمار الأرض في مشاريع تفيد المخيم، وهي عبارة عن مول تجاري، ومسجد، ومركز شرطة. وهذا المشروع الذي سيطيح برمزية "التلة"، مشروع قائم على الفساد، المستفيد منه هو "خميس"، ابن الحكومة، والذي صار من أثرياء تجارة الأنفاق بعد أن كان مجاهدا مغوارا. أما مركز الشرطة والمسجد فكأنهما الحارسان أو المُشرّعان الضروريان لوجود "المول"؛ المغفر يمنح الحماية الأمنية، والمسجد يمنح الشرعية الدينية (الأدوات التقليدية لأي سلطة). وبسقوط التلة التي صمدت سابقا في وجه إسرائيل تضيع البوصلة؛ فالجماهير كانت تعرف أيام التلة أنها تواجه عدواً واضحاً، أما اليوم فإن الناس في حيرة وارتباك بين "المول" و"المسجد" و"المغفر"، ولم يعد العدو واضحا.


تزخر الرواية بالكثير من المعاني والدلالات، التي يصعب ذكرها جميعها، إلا أنها واحدة من الروايات الأجمل، التي تستحق الفوز بجدارة، وحتى لو لم تفز، يكفي أنها ساهمت في رفع الرواية الفلسطينية إلى مصاف الرواية العربية، بل والعالمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق