أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 11، 2015

من عطَّل مسيرة العِلم والحضارة ؟!

عَـبْر رحلة طويلة وشاقة، بدأت منذ فجر التاريخ، حقّقَ الإنسانُ في الألفي سنة الأخيرة أهم قفزاتة الكبرى نحو الإنسنة والحضارة، بعد أن عرف الاستقرار واكتشف الزراعة وقدح شرارة الثورة الصناعية. كان العِلم هو المحرك الرئيسي والمنظم لهذه المسيرة المضنية. وفي القرن الأخير توَّج تراكمات تجربته الملحمية من خلال مسلسل من الاختراعات والاكتشافات والنظريات بدأ ولن ينتهي. ولولا بعض العثرات والانتكاسات، لوصل إلى ما وصل إليه قبل القرن العشرين بكثير، وربما كان اليوم في فضاء علمي وتكنولوجي مختلف، أكثر تقدما وتطورا؛ يشبه ما نراه في أفلام الخيال العلمي. فما هي أبرز تلك الانتكاسات والعوائق!؟
في أمكنة عديدة وأزمنة مختلفة، تجرأ بعض المفكرين والعلماء على كسر المعتقدات الجامدة والمفاهيم السائدة، خاصة في فهم وتفسير الظواهر الطبيعية، وكيفية الاستفادة منها؛ فانتقدوها، وعملوا على تطويرها أو تغييرها، كما تجرأ فنانون وفلاسفة كُثُر على كسر التقاليد الموروثة. 


وفي المقابل، حصلت حوادث حرق عديدة متعمَّدة لأهم الكتب والمكتبات، فضلا عن عمليات تعذيب وإعدام للكثير من العلماء والفلاسفة، وقد أدى ذلك إلى تراجع العلم، وإسكات صوت الفلسفة، وخنق الإبداع، وضياع ملايين الكتب والمخطوطات، التي كان يمكن لها أن تنقل العالم بأسره إلى آفاق مختلفة، وتختصر علينا جميعا قروناً من التخلف والمعاناة.
كان الجهل، والتطرف الديني والمذهبي، والخوف من وجهة النظر المخالفة، والتعصّب الأعمى، إلى جانب  عمليات الغزو الأجنبية، والحروب والصراعات الداخلية من بين أهم الأسباب التي عطلت مسيرة العلم، وحرَمت البشرية من إمكانيات هائلة للتطور؛ فمثلاً في القرن الخامس الميلادي، كانت "الإسكندرية" في ذروة عطائها الحضاري، وقد حوت مكتبتها آنذاك آلاف المجلدات والمخطوطات والخرائط وتصاميم المخترعات، وكان آخر من تولى إدارتها العالم "ثيون"، والد عالمة الرياضيات المهندسة والفليسوفة الشهيرة "هيباتايا". إلا أن هذا القرن شهد احتدام الصراعات الدينية بين المسيحيين واليهود والوثنيين، ونظراً للشعبية التي كانت تتمتع بها "هيباتايا" ولأفكارها الثورية التي تتعارض مع توجهات الكنيسة؛ فقد أمر الأسقف "سيريللم" بقتلها، بعد أن شنَّ القساوسة المتعصبون حملة تحريض بشعة بحقها، ما دفع الغوغاء (جنودالأكليروس التقليديون) إلى إشعال النيران بجسدها في النهاية، وقتلها بطريقة وحشية، ومن بعد ذلك مباشرة هجموا على المكتبة وأضرموا فيها النيران، ودمروا كل مقتنياتها الثمينة، وكنوزها العلمية التي لا تقدَّر بثمن.
وفي زمن آخر، لم يكن هجوم السلاجقة على "أصفهان" مجرد إحلال سلطة محل أخرى، بقدر ما كان هدماً لنموذج التعايش والتقدم العلمي الذي مثّلته المدينة، كما حصل لاحقاً في "أشبيلية" التي كانت أيضاً منارة للعلم، لكن تياراً سلفياً متشدداً ظهر فيها، ظل يحرّض على فيلسوفها ابن رشد (ت 1198)، ويتهمه بالكفر؛ حتى قام الخليفة أبو يعقوب المنصور المنصور، بحرق كتبه ونفيه إلى مراكش  . وتاريـخنا للأسف، يحوي الكثير من الأمثلة المشابهة.
وفي سياق متصل، تأتي الإمبراطورية الرومانية، والتي كانت تمثّل حالة متقدمة (نسبيا) في مجالات ترسيخ أسس الدولة الحديثة ونظم الإدارة، والتصنيع العسكري والزراعة، وكان من المفترض أن تواصل عمليات البناء التراكمي لما انتهت إليه علومها وعلوم الفُرس واليونان وفلسفاتهم، إلا أنها أدخلت (برعاية الكنيسة) القارة الأوروبية فيما سُمي بعصر الظلمات؛ حيث عاشت أوروبا حالة من التخلف والفقر والفوضى، وظلَّ  نور الحياة والمعرفة محبوسا خلالها في حصون الجهل والخرافة.
في تلك الحقبة كانت الكنيسة تهيمن على كل شيء، وتسيطر على كل مناحي الحياة، وكانت الأمية متفشية على أوسع نطاق، إذْ منعت الكنيسة الناسَّ من تعلم القراءة والكتابة، بل واعتبرت ذلك شيئا خطيراً، يهدد مكانتها، ويدنس قداستها !! فكل من تكلم، أو فكّر، أو اختلف مع الكنيسة، اعتبرته من الخصوم، بل من أعداء الله الملحدين المهرطقين الذين يستحقون أقصى العقوبات بتهمة التجديف.
"كوبرينوكس" عوقب، و"جاليليو" أُدين، أما "فوبرنو" فقد أُعدم، وغيرهم الكثير. ملايين النسوة أُحرقن بتهمة السحر، والتداوي بالأعشاب، وأنشأت محاكم التفتيش، وكل من ألَّف كتابا يتعارض مع الكنيسة عوقب إما بحرق كتبه، أو بحرقه شخصيا. وقد دامت هذه الحقبة المظلمة نحو ألف عام، حبست الكنيسةُ خلالها العلمَ في قمقم التعصب والجهل، قبل أن تبدأ أوروبا محاولاتها الأولى في الانبعاث.
في المقال القادم، سنناقش دور الفقهاء المسلمين في تعطيل العلم، ووقف مسيرة الحضارة الإسلامية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق