أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 18، 2015

هجمة مشبوهة على رام الله



نشرت صحيفة "السفير" اللبنانية تقريرا صحافيا يصف "ليالي رام الله الحمراء"، أعده صحافي أسمع به لأول مرة اسمه "اسلام السقا"، ولست متأكدا إذا سبق له زيارة رام الله، أم أنه انضم لفرقة الهجوم على المدينة، بعد أن وجد في هذا الموضوع مادة مثيرة، تحصد اللايكات، وتسرِّع من عدّاد القراءات !!

يبدأ "السقا" تقريره بسؤال ساذج: من هي أشهر إمرأة في رام الله، بل في سائر أراضي السلطة ؟ ويجيب بكل خفة: إنها "أنيسة" !! ولكن من هي أنيسة ؟ ولمَ كل هذه الضجة حول مطعم أنيسة ؟! في آب الماضي انتشرت إشاعة مفادها أن الشبان الغاضبون يحرقون ثلاثة مطاعم تبيع الخمور منها مطعم أنيسة، وبدأت التعليقات الحاقدة التي تصف عهر رام الله وفسقها ومجونها !! وتبين لاحقا أن مطعماً واحداً فقط (متخصص بالمأكولات البحرية) قد احترق بسبب تماس كهربائي، ولكنه لسوء حظه يقع بالقرب من مطعم أنيسة !!

من خبرتي المتواضعة بعد عقدين من إقامتي في رام الله، أكاد أن أجزم أن لا أحد تقريبا من سكان رام الله يعرف من هي "أنيسة"، لكنهم جميعا يعرفون سميحة خليل، وزهيرة كمال، وحنان عشراوي، وكما يعرف كل نابلسي فدوى طوقان، وسحر خليفة، وكما يعرف كل فلسطيني دلال المغربي وليلى خالد وغيرهن عشرات .. علما بأن "أنيسة" التي سُـمّي المطعم على اسمها هي سيدة محترمة توفيت قبل زمن طويل، وأحبَّ أبناؤها تخليد اسمها بطريقتهم الخاصة، ولا علاقة لها بما يُشاع عن المطعم، وعن المدينة ..

في التقرير نقرأ عن "ليالي رام الله الحمراء" و"سكارى يترنحون في الشوارع" و"بيوت سرية" .. مع إشارات خفية لدور المسيحيين، وتواطؤ السلطة في قتل "الروح الثورية" للمدينة !!

 قبل هذا التقرير ظهر كاتب مغمور صار فجأة حديث النقّاد، حين ألَّف ما يشبه الرواية عنوانها "رام الله الشقراء"، تهجم فيها على المدينة، وشيطنها، ووصفها بوكر للرذيلة ..

مثل هؤلاء لم يروا في رام الله سوى حضيضها، ولم يعرفوا منها إلا القشور. رام الله مثل أي مدينة أخرى من مدن العالم، لها عدة أوجه. لا توجد مدينة طاهرة، ومدينة مذنبة، كما لا توجد مدينة فاضلة ومثالية.. المدن بسكانها وثقافتها، وهذه مسألة نسبية متحركة على الدوام .. وإذا كان الحديث عن مراقص وحانات لبيع المشروبات الروحية، فمثل هذا بل أضعاف أضعافه موجود في أي مدينة كبيرة في العالم العربي والإسلامي (بعضها في العلن، وبعضها في السر).

من حق أي مواطن أن ينتقد رام الله، أن يحبها أو يكرهها، أن يسكن فيها، أو يرحل عنها .. لكن ليس من حق أحد تشويه صورتها، واتهامها بما ليس فيها .. قد ننتقد غلاءها الفاحش، إخفاقها في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ازدحام الطرق وأزمات المرور، المطبات، أخطاء البلدية في تعبيد الشوارع، الدور الملتبس لمنظمات ال NGO’s .. ولكن لا ننسى تاريخها العريق، دورها النضالي منذ ثورة ال 36، وحتى الانطلاقة، مرورا بالانتفاضتين .. وأنها قاتلت ببسالة وتصدت لهجمات جيش الاحتلال، وأنها ظلت باروميتر الحِراك الشعبي في فلسطين، وأن شوارعها تعمدت بدماء الشهداء، وقد سارت فيها مئات، بل آلاف التظاهرات والمسيرات الشعبية، سواء ضد الاحتلال، أو من أجل عشرات القضايا الأخرى.

رام الله، قبل أن تُطلق على ميادينها وشوارعها أسماء الشهداء والمناضلين والمبدعين ومن ساهموا في الكفاح الإنساني اختارت أن تكون مدينة متعددة، متنوعة، متسامحة، منفتحة على الجميع، تذوب فيها الفوارق الطبقية والاجتماعية. فصارت مدينة التعايش الأجمل في فلسطين، بل في المنطقة بأسرها، حيث يعيش فيها المسيحيون والمسلمون بسلام وتآخي منذ مئات السنين. رام الله الأقدر على صهر جميع التناقضات في بوتقة الوسطية والاعتدال، حيث تجد فيها الأفكار اليسارية واليمينية، التقدمية والرجعية، الأنماط الليبرالية والمحافظة، دون أن يطغى أحد على الآخر. رام الله مدينة منحازة للحياة والمستقبل، فلا تكاد تمر أمسية فيها دون نشاط ثقافي، أو فعالية تدعوك للفرح.

هؤلاء الذين يستقوون على المدينة، (سواء من يسعى لتغيير اسمها، أو لتشويه صورتها)، لم يعرفوها على حقيقتها، أو أنهم عرفوها ولم يستوعبوا تنوعها، لم يعرفوا كيف يحبوها، ربما لأنهم لا يعرفون الحب، وربما لأنهم ينتمون لأزمنة أخرى، وربما بعضهم يصفّي حسابات سياسية مع السلطة .. هؤلاء لا يكتبون إلا ما هو مُـخزَّن في ذاكرتهم من أحكام مسبقة، ولا يصفون إلا ما يعشعش في مخيلاتهم، وما يبحثون عنه؛ تماما مثل الرجلين اللذين عادا من مصر إلى المدينة، فسألهم الخليفة الفاروق: كيف وجدتما مصر وأهلها ؟ فأجابه الأول بما يدل على أنها بلد المراقص والحانات، فقال له صدقت. بينما أجابه الثاني بما يدل على أن أهلها متدينون وملتزمون بالإسلام، فقال له أيضاً صدقت. فقد كان كل شخص يفتش عن الأشياء التي تهمه، ولم يرى الأشياء الأخرى.

من يكره الأغاني، ويخاف من رقصة، ويتوجس ريبة من بسمة طفل. من لا يعشق الورود، ويحب العتمة، وتزوغ عيناه من الضوء. من يخشى من التغيير، ويسعى لإيقاف عقارب الزمن .. من يكره رام الله فليحمل أحقاده وكآبته ويرحل بها بعيداً،  إلى كهوف الظلام ..  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق