أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 30، 2014

أين اختفى أبو العبد !؟


قبل نحو سنتين، وبشكل مفاجئ، عادت قصة اختفاء "أبو العبد" تتصدر واجهة الأحداث، ومع كثرة الشائعات التي قيلت حولها آنذاك، بدأ يتلاشى وهجها تدريجيا، إلى أن توقفت، اليوم، وبشكل مريب، لا أحد يتكلم عن الموضوع، وكأنَّ هناك اتفاق تآمري فيما بين وسائل الإعلام على تجاهل القصة، والتعتيم عليها، بعد أن ظلت لسنوات طويلة وهي القضية الأكثر إثارة، والأشد غموضا وغرابة، وقد عجزت عن فك لغزها كافة أجهزة المخابرات ومعهم المحللين والمتابعين .. وحتى قُرّاء الكف والطالع ..

وللتذكير، "أبو العبد" هو الاسم الحركي لفدائي فلسطيني وُلد في بداية الخمسينات من القرن الماضي، كانت لهجته تدل على أنه من يافا، أو من إحدى قراها، (فقد كان يتقن اللجهتين الفلاحية والمدنية بطلاقة)، طوله بحدود ال 180 سم، حنطي البشرة، مشدود القوام، عيناه بين البني والعسلي، ولكن الطيبة والبساطة والذكاء تشع منهما، اسمه الحقيقي غير معروف إلا لأشخاص قليلين جدا، وأكثرهم غادر الدنيا، ومن بقي فيها فهو مجهول الإقامة.

قصته الحقيقية والكاملة لا أحد يعلمها بالضبط، فحتى الذين كانوا يعرفونه شخصيا، ويتواصلون معه كانوا يعرفون جانبا منها فقط، ويجهلون جوانب أخرى. وهناك ما يشبه التأكيد على أنه انضم لصفوف الثورة في نهاية الستينات (توجد صورة لهويته العسكرية شاهدتها أثناء بحثي في جريدة العاصفة من أرشيف مكتبة الجامعة الأردنية)، البعض قال إنه بدأ بنشاطه العسكري والتنظيمي قبل ذلك بكثير، ولكن لصغر سنه كان توُكَل إليه مهمات بسيطة، لكنها تتطلب قدر كبير من الشجاعة.

ولأنه كان كتوما وحذرا، لم يكن أحد من أقربائه وجيرانه يعرف حقيقته، وحتى رفاقه الذين ناضلوا معه لسنوات طويلة، كانوا يتعاملون معه على أنه مجرد مقاتل عادي، دون أن يعرفوا أنهم لم يروا منه سوى قمة "جبل الجليد" الذي يختفي معظمه في قاع البحر، ولشدة ما كانوا يستغربون حين يسمعون عنه قصص البطولات، فلا يصدقونها. وفيما بعد، وبعد أن ذاع صيته، أخذ عدد كبير من القادة والشبان يسمون أنفسهم "أبو العبد"، منهم تيمّناً بالاسم، ومنهم ليدّعي أنه هو نفسه "أبو العبد"، أو لينال بعض الاحترام الذي يحظى به الاسم. أما رجال الأمن وأجهزة الاستخبارات، والإعلاميين والمختصين فكان لهم قول مختلف؛ فقد كانوا  يتربصون به ويتابعون آثاره، ولكن بلا جدوى. حتى أن ضابط المخابرات سألني أثناء التحقيق معي قبيل ترحيلي إلى سجن سواقة، عن طبيعة علاقتي مع "أبو العبد"، فأجبته بابتسامه ساخرة، لأني فعلا لم أكن أعرفه، لكن هذه الابتسامة الساخرة كلفتني ثماني صفعات على خدٍ واحد.

 يقال أنه من بين الجرحى الذين أصيبوا في معركة الكرامة، وقد تعالج في مستشفى السلط، وحين جاء ضابط الاستخبارات ليحقق معه، أقنعه أنه مجرد راعي كان ماراً بالصدفة بالقرب من المعركة .. بعدها، أمضى في عمّان عامين فقط، ثم التحق بمعسكر الهامة في سورية، ومن بعدها انتقل إلى العرقوب في الجنوب اللبناني، في تلك الفترة انضم لكتيبة الجرمق، وكان ثلاثة أشخاص فقط يعرفونه باسمه الحقيقي (وهم: معين الطاهر وهو الآن من قدامى المحاربين ومقيم في عمّان، شفيق الغبرا، وهو الآن أستاذ جامعي في الكويت، محمود العالول وهو اليوم من قيادات السلطة ومقيم في نابلس). وقد استمر وجوده في الجنوب إلى أن حل صيف العام 1975، حيث اشتدت الحرب الأهلية اللبنانية، فعاد إلى الأرض المحتلة.

بعد عودته للوطن، اعتقلته سلطات الاحتلال أربعة أو خمسة مرات، في كل مرة كان يُقنع المحققين بأنه مواطن بسيط، ولا علاقة له بالعمليات الفدائية، حيث كانت مخابرات "الشين بيت" تعتقد بوجود رابط خفي بينه وبينها، لكنها لم تمتلك أي دليل يؤكد شكوكها، ومع هدوئة الاستفزازي أمام المحققين، كانت المحكمة العسكرية تكتفي بحبسه "إداري" ثم تفرج عنه، وتضعه تحت المراقبة، وبعد مرور بعض الوقت تتكرر العمليات، ويتجدد اعتقاد المخابرات بوجود الصلة الخفية بينه وبينها، ثم تعتقله من جديد، وهكذا .. وبالرغم من تنفيذ 86 عملية فدائية ما بين تفجير وقنص وهجوم مسلح، جميعها قيدت ضد مجهول، في الفترة ما بين عودة "أبو العبد" ولغاية 1981، إلا أن المخابرات ظلت عاجزة عن إدانته، فقررت أخيرا إبعاده بدون إبداء أسباب إلى الأردن.

لم يمكث "أبو العبد" في الأردن سوى ليلتين، وفي اليوم الثالث تسلل إلى سوريا، ومنها إلى لبنان، وهناك التقى من جديد مع خليل الوزير، لم يمض وقت طويل حتى اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان في صيف 1982، فشارك في معركة صمود بيروت، ولكنه قبل أن يُعلَن عن وقف إطلاق النار بيومين اختفى تماما، إلا أنه شوهد مرة ثانية في مخيم البداوي، وفي طرابلس في خريف 1983.

بعد الخروج من طرابلس، اختفت آثاره كلياً، افتقده أصحابه ورفاقه، وحتى عائلته لم تعد تعرف عنه شيئا، وقيل حينها أنه غرق في البحر قبالة شواطئ قبرص، وقيل أنه مات في معسكر السارة في الصحراء الكبرى جنوب ليبيا، وقيل أنه اعتقل في سجن المزة في دمشق وقضى تحت التعذيب، وقيل أنه يعيش حياة هادئة في حي الرابية في عمّان، وأنه اعتزل السياسة ...

هناك روايات بأنه تزوج، وأنجب بنتين جميلتين، وقد التحقتا بفرقة الحنونة للفنون الشعبية، بينما يؤكد آخرون أنه لم يتتزوج أبداً، لأن التي أحبها وأحبته ظلت بعيدة المنال، وقد رفضت كل عروض الزواج من غيره، وتحملت ضغوطات الأهل، وظلت تنتظره، وهو يتنقل من سجن إلى منفى، إلى أن فاتها القطار، لكنه تضامنا معها أحجم عن الزواج.

وفي مقابلة مسجلة أجريتها مع أحد القلة الذين يعرفونه، أكد لي أنه أمضى الفترة من 1983، وحتى قدوم السلطة الوطنية متنقلا ما بين الخليل ونابلس ورام الله وغزة، وأنه كان من القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى، وكانت علاقته المباشرة مع المرحوم فيصل الحسيني، ومن خلاله مع مكتب الغربي في بغداد.

وطوال هذه الفترة، لم يعرف أحدا مكانه، في طول الأرض المحتلّة وعرضها، حتى مكتب الغربي في تونس وبغداد كان يعرفه فقط بالاسم، ويتواصل معه عبر شخص واحد فقط كان موضع ثقة الطرفين، وقد حاولت إسرائيل بكل أجهزتها تتبع مكانه ونشاطاته، لكنها لم تجد له أثرا.
في كانون الأول من العام 1995، كان ياسر عرفات في رام الله لأول مرة منذ نحو ثلاثين عاما، في المساء كانت الجماهير الغفيرة تؤم المقاطعة، يصافحون الزعيم ويقبلونه، ثم يمضون، كان من بينهم "أبو العبد"، لم يكن أحد من الحراس والمرافقين ولا من القيادات تعرفه، ولا حتى أبو عمار، لكنه حين صافحه همس في أذنه بكلمات قليلة، حينها بدت معالم الجدية على قسماته، على الفور، أعاد احتضانه، وقبّلَه بحرارة فيها قدر من المبالغة، وقال له بصوت خافض، لا تغادر، عاوزك، وبالفعل بعد منتصف الليل، كان أبو العبد وأبو عمار في غرفة مغلقة لوحدهما في اجتماع استمر لأكثر من ساعتين، لم يعرف أحد ماذا دار خلاله، وعلى ماذا اتفقا، بل أن أحدا لم يعرف من هذا الرجل الذي استحوذ على اهتمام عرفات، وطلب منه أن يعود في اليوم التالي.
في اليوم التالي عاد إلى المقاطعة، لكن عرفات كان قد توجه إلى أريحا، فلحق به هناك، بيد أن بعض المحيطين به أعطوا تعليمات للحراس بأن أبو عمار مشغول، ولا يريد مقابلة أحد هذا المساء، وفي اليوم التالي عاد، وعلى مدى أسبوع تكرر نفس السيناريو، ثم انتقل عرفات إلى غزة وأمضى فيها فترة طويلة، ومنذ ذلك التاريخ قرر أبو العبد الاعتكاف، والإنزواء .. فاختفى كليا، وكل محاولات القيادة للعثور عليه باءت بالفشل .. وبعد رحيل عرفات، لم يعد أحد يفكر جديا بالبحث عنه.
ولغاية هذا اليوم، لم يعرف أحد أبدا، في سائر أرجاء الكوكب: في أية غرفة مغلقة ينام "أبو العبد". ومتى سيعود ؟ وهل ما زال بحيويته ونشاطه، أم هزمته السنين ؟
ولم يعرف أحد أبداً كيف اختفى فدائي أسمر إسمه أبو العبد .. وصار كما لو أنه مجرد ذكرى جميلة، ولكن، في جنازة الشهيد زياد أبو عين، شاهدتُ الفدائي القديم الذي عايش أبو العبد، وكان حلقة الوصل بينه وبين القيادة، كان يرفع يافطة عليها علم فلسطين من اليمين وشعار العاصفة من اليسار، وفي الوسط عبارة واحدة: إرجع، يا فدائي، اشتقنالك ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق