أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 22، 2014

أيديولوجية داعش، وعلاقتها بالإسلام


لنؤجل قليلا الحديث عن الأبعاد السياسية والإستراتيجية لدولة داعش، والنظريات التي تتحدث عن نشوئها وارتباطاتها مع أجهزة المخابرات الغربية، وعلاقاتها بإسرائيل، وأثرها على مستقبل المنطقة ... ولنناقش الأيديولوجيا التي تتبناها، وعلاقتها بالإسلام.

 إزاء هذا الموضوع تبرز وجهتي نظر، كل منهما عكس الأخرى؛ الأولى تقول بأن "داعش" لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ولا تمثّله بأي شكل؛ بل أنها أساءت إليه، وقدمت نموذجا مشوها، يختلف كل الاختلاف عن الإسلام الحقيقي، دين الرحمة والتسامح والتعايش بين البشر. أصحاب هذا الرأي هم ممن يسمّون بالمسلمين المعتدلين الوسطيين.

في المقابل، هناك من يقول إن ما يقوم بهم تنظيم داعش، هو عين الإسلام، ولا يغدو عن كونه عملية استنساخ أمين وحرفي لتاريخ طويل ممتد من عمر الدولة الإسلامية، وفتوحاتها وحروبها ضد الكفار و"الروافض". وغني عن القول أن أصحاب هذا الرأي هم أتباع داعش نفسها، وبعض التيارات الإسلامية المتشددة.


وبين هذين الرأيين، ثمة رأي ثالث مفاده أن أيديولوجيا داعش مستقاة من التراث الإسلامي، وأن هناك حشدا من الفتاوى تؤيد قتل الأسرى، وسبي النساء، وفرض الجزية، وأخذ الغنائم، وتطهير أرض الخلافة من غير المسلمين، وتحرّم كل ما حرّمته داعش، وتوافق على ما فرضته على الناس من مسلكيات ومحددات ... إلا أن داعش راحت في ذلك إلى أقصى مدى، وطبقته بشكل سافر وعشوائي، ومبالَغ فيه. وأصحاب هذا الرأي الذي ينتقدون داعش على ممارساتها الفظيعة هم من تنظيم القاعدة، وتفريخاتها. ورأي رابع يقول أن أيديولوجيا داعش حتى لو كانت من صُلب الإسلام، وانعكاسا لتاريخه القديم؛ إلا أنها لم تعد صالحة في هذا الزمان؛ أي زمن العولمة وحقوق الإنسان والدولة الحديثة، وأصحاب هذا الرأي ممن يسمون الإسلاميين المتنورين، أو الحداثيين.

 إذن، نحن أمام وجهات نظر متباينة ومتناقضة للحكم على نموذج "إسلامي" تمثله "داعش"، فبين من يقول أنه لا يمثّل الإسلام، ومن يقول أنه يمثل جانبا مجتزئا منه، الحالة الأولى تعني نزع صفة الإسلام عنه، أي تكفيره. والحالة الثانية تعني الإقرار بإسلاميته؛ وهذا يقتضي من الإسلاميين "المعتدلين" الاعتراف بتعدد الإسلام ذاته، وهو أمر يتناقض مع الصورة المثالية للإسلام، بوصفه دين واحد موحد.

في حقيقة الأمر أن النموذج الذي تقدمه داعش لا يختلف كثيرا عما تقدمه حركات الإسلام السياسي الأخرى، وبالذات ما يعرف بالتنظيمات الجهادية: (القاعدة، النصرة، أنصار بيت المقدس، أنصار الشريعة ... )، هذا فقط ضمن إطار ما يعرف بأهل السنة والجماعة، وإذا ما وسعنا الدائرة قليلا سنجد عشرات التنظيمات الإسلامية التي تختلف عن مثيلاتها السنية في المرجعيات الدينية فقط، ولكنها تتفق معها في كثير من الأشياء الأخرى: ممارسة العنف، القتل، التشدد، التعصب المذهبي والطائفي، التزمت إزاء قضايا المرأة والجمال وأنماط الحياة العصرية وأشكال السعادة. وحتى عند الجماعات التي توصف بالاعتدال، سنجد أن الفرق الحقيقي يكمن في درجة التشدد، وفي اختيار المواقيت، وفهم الظروف السياسية، ودرجة المرونة في التعاطي مع الشأن العام، لكن جوهرها متشابه إلى حد كبير.

ورغم ذلك، فإن النهج المتبع من قبل هذه التيارات والأحزاب المختلفة هو منهج التكفير؛ أي تكفير كل من لا يشبهها؛ فبينما تستهجن التنظيمات "الوسطية والمعتدلة" منهج داعش في التكفير، نجد أن نفس التنظيمات تكفّر داعش، أي أنها وقعت في نفس الشّرَك، وبادلت  التكفير بالتكفير، لأنه على ما يبدو المنهج السائد المهيمن على العقلية العربية.

في تاريخ البصرة، ما يُعرف بثورة الزنوج، وهي ثورة نفذها آلاف العبيد ضد والي الخليفة، وانتهت باجتياح المدينة والسيطرة عليها لسنوات عديدة، وبدلا من أن يقدم الثوار نموذجا للعدالة والمساواة وإلغاء العبودية، قاموا باستعباد الطبقة الحاكمة ومعها سكان المدينة، أي أنهم مارسوا نفس الظلم الذي وقع عليهم، لأنهم فكروا بعقلية العبيد، ولم يفهموا العالم إلا على شكل سيد وعبد.

بعبارة أخرى، يسود منهج التكفير لأن لدى كل فئة فهماً معينا للإسلام، تزعم أنه روح الإسلام الحقيقي، وما عداه شطط وضلال، وبالتالي فإن كل فئة تؤمن أنها هي الفرقة الناجية.

وبعد التكفير، تأتي الحلقة الثانية؛ وهي العنف، وقتل كل من استحق صفة الكافر، وتاريخيا، تضمَّن كل دين في ثناياه عناصر العنف، وذلك بمجرد تحول أتباعه إلى طوائف، وبمجرد صعود رجال الدين للتحدث باسمه، مانحين أنفسهم سلطة السيطرة على البشر واعتبار أنفسهم يحكمون باسم الله، وعندما تعتبر كل طائفة نفسها محتكرة للسماء، وأنها تمثل الدين بصورته النقية الأصلية، وعندما تقحم السلطة أو الميليشيات الساعية للسلطة الدين بالسياسة، وتوظفه لصالح مشاريعها؛ آنذاك يصبح العنف والإرهاب باسم الدين من ضرورات السلطة ومقتضيات الحكم.

في عصور الظلام عانت أوروبا من تسلط رجال الدين، وعرفت المجتمعات الأوروبية أشكالا مروعة من الإرهاب الكنسي؛ في الحروب الدينية، ومحاكم التفتيش، والأساليب المرعبة التي استخدمتها الكنيسة، والعذابات التي كانت تذيقها للشعوب، والمذابح التي كانت تجري وسط التهليل بقتل الكفّار والمهرطقين؛ حيث كان القتل مباحا من كل فئة لأنها تعتبر نفسها معبّرة عن الدين المسيحي الحق، وما عداها من الطوائف كفار، يتوجب القضاء عليهم. كل ذلك رغم أن المسيحية في جوهرها تدعو للصفح والتسامح والسلام، إلا أن رجال الدين كانوا ينتقون من النصوص الدينية ما يريدون، ويضعون ما لا يريدون.

البعض يرى أن فقهاء "داعش" ينتقون من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية ما يقيمون عليها بنيانهم الفكري، ويدعم رؤيتهم، أي أنهم أغفلوا أو تجاهلوا عشرات الآيات الكريمة التي تدعو للرحمة والتسامح والدفع والمجادلة بالتي هي أحسن، واختاروا آية السيف، وحديث الفرقة الناجية، واكتفوا بها، على مبدأ الولاء والبراء (وهذه أسس الفقه الوهابي). وفي المقابل فإن منظري داعش وبقية الجماعات المتشددة يعيبون على ما يسمونهم الإسلاميين الوسطيين انتقائهم لآيات معينة وتجاهل أخرى، وتجاهل سجل حافل من الفتوحات والحروب التي شنتها الدولة الإسلامية قديما. وهذه الانتقائية (الممارَسة من قبل الجميع) إنما تفضح خضوعها للاعتبارات السياسية والمصلحية، وسبل الوصول للسلطة.

ومن أجل فهم المشهد بطريقة موضوعية يقتضي الأمر نقل المعركة إلى داخل الفضاء الإسلامي نفسه، أي إلى داخل النصوص المقدسة ذاتها، واستحضار مقولة الإمام علي بن أبي طالب بأن القرآن حمّال أوجه. فإذا كانت الجماعات المتشددة تجد من النصوص ما يدعم أيديولوجيتها، فإن الجماعات المعتدلة ستجد نفسها في مواجهة نفس النصوص التي قد تطال الأسس التي تبني عليها اعتدالها. وفي هذه الحالة لن يختلف معسكرا التطرف والاعتدال في شيء جوهري، فكل منهما يزعم النطق باسم المقدس، وكل منهما يستند في معركته إلى النصوص، فيختلط الديني بالسياسي، والحركي بالفقهي .. إلى درجة تؤكد أن كل ما يجري إنما هم محاولات للهيمنة على الإسلام، واختطافه، لصالح مشاريع سياسية تتغلف بالإسلام.

ومن ناحية ثانية، فإن فهم الإسلام استنادا إلى النص المكّي، لا يعطي "المعتدلين" إمكانية اختزال الإسلام في الجانب الإيماني المحض فقط، ومن ثم البناء عليه لوحده، أي حصره ضمن المستوى الفردي، لا على المستوى الجمعي والسياسي، لأن ذلك سيجعل منهم إسلاميين علمانيين، لا وسطيين فحسب، كما يوسمون أنفسهم. أما فهمه استنادا للنص المديني فإنه يعطي "المتشددين" إمكانية حصره في الجهاد والفتوحات، وتجاهل الأبعاد والمضامين الروحية للإسلام، وحصره في المستوى السياسي الجمعي.

وهكذا، وبعد أن استعرضنا المواقف المتباينة من داعش، وإذا تجنبنا أسلوب التكفير، وتجاوزنا منهج الانتقاء، لصالح رؤية أكثر شمولا، سنكون مباشرة أمام صور عديدة ومتباينة للإسلام. وحتى لا نقع في شَرَك "الفرقة الناجية" والزعم باحتكار الحقيقة، لن نكون مضطرين لانتقاء نموذج محدد من بين النماذج المطروحة، سنكون بحاجة ماسة وملحة لتقديم رؤية جديدة عقلانية تلامس واقع المسلمين في العصر الحالي، أي بحاجة لتفسيرات حديثة للإسلام تعترف بأن حركة التاريخ تسير للأمام، وأن العالم متحرك ومتغير على نحو لا يسمح بالتعاطي معه بمفاهيم ونظريات موغلة في القدم، وتجازوتها الأحداث، أي الاعتراف بمشروعية الخروج عن الفهم النمطي التقليدي لتعاليم الإسلام، وهذا يدعى بفقه "المصالح المرسلة"، وهو فقه توقف منذ قرون. بقول واحد مطلوب تقديم قراءة تاريخية ثورية للإسلام، تفتح باب الاجتهاد على مصراعيه بعقلية منفتحة تؤمن بالتعددية، متصالحة مع الإنسانية، ومنسجمة مع روح العصر.

اليوم، وبعد أن شوهت ممارسات داعش صورة الإسلام، وأساءت للمسلمين في شتى بقاع المعمورة، وجعلت المخيال العالمي يربط بين الإسلام وصور المذابح والدماء والعنف، تكون داعش بصعودها المفاجيء، وممارساتها الفظيعة قد وفرت فرصة مناسبة لتسليط الضوء على هذا العنف والإرهاب الممارَس باسم الله، وفرصة لتعرية كل الأيديولوجيات الإقصائية الدموية التي تتستر خلف عباءة الدين،  وهنا لا تكفي حملات التبرؤ من "داعش" وتنزيه الدين الإسلامي من فكر هذا التنظيم وممارساته؛ رغم أهميتها في استعادة كل ما هو أخلاقي وإنساني وروحي وتسامحي في الإسلام، لكن هذا الاستنكار لا قيمة له ما لم تترافق مع تجفيف المستنقعات التي نشأت فيها داعش، أي القيام بعمليات إصلاح ديني حقيقي، وهذا يحتاج طرح أسئلة كبرى، ومراجعة نقدية شجاعة قد تطال الكثير من المسلّمات.

يطالب البعض السير على خطى أوروبا، التي تحررت من سطوة الكنيسة بعد أن قطعت العلاقة بين الدين والسياسة، وفصلت الدين عن الدولة، وأعادته إلى موقعه الروحي والأخلاقي والإنساني، أي حصرته عند المستوى الفردي. فيما يشكك كثيرون بإمكانية نجاح ذلك في المجتمعات العربية، ذلك لأن بين الإسلام والعروبة علاقة وثيقة من الصعب فصمها، ولأن الإسلام مكون أساسي للشخصية العربية وللحضارة العربية، كما أن القوى اليسارية والعلمانية والقومية في مرحلة ضعف وتفكك، وليس لديها الآن إمكانية تقديم البديل.

 والمراجعات المطلوبة تقتضي بداية فهم الظروف والبيئات التي نشأ فيها العنف، وهو بالمناسبة لا يقتصر على داعش، وهذه البيئات ليست فقط ظروف الفقر والإهمال والفساد والبطالة والقمع السلطوي، (الحاضنة الموضوعية للإرهاب)، لكن أيضا تشمل المنظومة الفكرية التي تتغذى عليها داعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة، والتي تشكل محورها مناهج التعليم في المدارس والمعاهد الدينية، وكتب الفقه التي وضعها فقهاء السلاطين في زمن ما، وما زالت السعودية تعيد طباعتها، إلى جانب الفضائيات الدينية، وما ينشر على النت من مقاطع وأفلام، وأيضا استخدام المساجد في التحريض الطائفي، وخاصة في خطبة صلاة الجمعة، التي عادة ما ينهيها الخطيب بالدعاء على اليهود والنصارى (وأحيانا ضد الطوائف المسلمة الأخرى). هذه المنظومة الفكرية تقوم على فكرة الإقصاء، والتعصب، والعنصرية، ورفض الآخر، وهي مليئة بالحقد والكراهية ضد غير المسلمين، وهي بذلك تزرع في عقول المسلمين منذ الصغر إرهاباً كامناً ينمو ويكبر ليجري توظيفه لاحقاً تحت حجة نشر الإسلام.

ما يمنع حركات الإسلام السياسي من القيام بهذه المراجعات، والبدء بنقلة "نوعية" و"ثورية" و"تقدمية" تعيد للإسلام ألقه ودوره الحضاري، هو ليس تمسكها بأهداب النصوص بعقلية مغلقة، بقدر ما هو خشيتها من فقدان مصالحها، فليس من مصلحة من يعتبرون أنفسهم "إسلاميين معتدلين" أن يكون الإسلام تاريخياً، لأن الإسلام الجهادي المتشدد سيمتلك الأرجحية حينئذ على قاعدة الناسخ والمنسوخ في القرآن، أي نسخ كل الآيات الكريمة التي تدعو للرحمة والتواضع والتسامح بآية السيف، لأنها تاريخيا لاحقة عن الآيات "المكية". وهذا بالتالي قد يعطي"داعش" مشروعية تكفيرهم، بينما هم لا يملكون المشروعية ذاتها بناء على نفس النص.

وللأسف فإن التقصير لا يتوقف على الأحزاب والجماعات، فالمثقفين والمتنورين الإسلاميين ما زالوا يقبعون في منزلة بين المنزلتين، ولا يجرؤون على النقد، والحالات الفردية لبعض الكتّاب الإسلاميين الأكثر جذرية والأنضج في التعامل مع الحاضر والأبعد في رؤيتهم للمستقبل بقيت هامشية على صعيدي الفكر والسياسة، أو محارَبة، وقد تم تكفيرها وإقصائها. وفي النتيجة لم يتبق إلا صدى خافت لأصواتهم وهي تنادي بضرورة الخروج من عنق الزجاجة، أما واقع تيارات الإسلام السياسي المعاصر فإن من يعتبرون أنفسهم معتدلين وعقلايين، قد نالوا هذا اللقب لمجرد نسبتهم للتطرف، أي مقارنتهم بالمتطرفين والمجانين فقط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق