أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 31، 2014

تمثال في صالة الترانزيت


قبل أكثر من ستة عقود، وبطريقة تقليدية تقدم "غسان" لخطبة ابنة عمه .. وكالعادة، وافق أهلها، ومشت الأمور دون معيقات، لكنه لم يلبث طويلا حتى غادر البلاد، على أن تتبعه خطيبته بعد أن يستقر هناك. وبالفعل بعد أسبوع، كانت "أحلام" تطأ بأقدامها لأول مرة مطار الملكة علياء الدولي، وقفت تنظر بانبهار، وتسأل المارة بقلق، وتفتش في لوحة الإعلانات المضيئة عن موعد الطائرة المتجهة إلى "فنزويلا" .. أرضٌ بِكر، مليئة بالأحلام والفرص .. هكذا قال لها "غسان" .. مضيفاً: ستجديني هناك في انتظارك .. ما أن أقلعت الطائرة حتى أحست بقلبها يخفق كالطبل، كما لو أنه يصارع يداً امتدت فجأة وأرادت شلعه .. بدأت أوصالها ترتجف، ثم تتشنج .. أعطتها المضيفة حبة مسكن؛ فاستسلمت لنعاسها .. إلى أن وجدت نفسها في صالة الترانزيت في مطار هيثرو .. أمامها ثلاث ساعات لترتاح قليلا وتتسوق ثم تنتقل للطائرة الثانية، التي ستحملها على أكتاف السماء أربعة عشر ساعة متواصلة .. كانت أمها قد أعطتها معطفا سميكا وهي تقول: "بلاد الغربة موت سكعة يمّا" ..

حملت حقيبتها وسارت في الممر الطويل، وهي ترتجف من الخوف والبرد، لم تصدق أن البرد يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة، مشت ببطء وتثاقل، وفجأة هبت عاصفة ثلجية أدت إلى انقطاع الكهرباء، زاد ارتجافها وهي تكابد صقيعاً لم تعهده من قبل .. بدأت أطرافها تتجمد .. رفعت يدها اليسرى كما لو أنها تستنجد بشخص ما، فيما ظلت يدها اليمنى تحمل حقيبتها وهي ممدودة للخلف ورجلاها في وضع معاكس، قدمها اليمنى مرفوعة لم تلامس الأرض بعد، في خطوة غير مكتملة، وخلال ثواني قليلة كانت قد تجمدت بالكامل.

صبيحة اليوم التالي، لاحظ عمّال المطار وجود تمثالٍ جديد لإمرأة كاملة الأنوثة، في غاية الجمال .. وبالحجم الطبيعي .. لم يصدقوا أن فنانا يمكن له أن يبدع مثل هذه التحفة .. جاء مدير المطار ليراها بنفسه، قال لا بد أن بلدا صديقا أهدتنا إياها، وأمر بنقلها إلى الصالة الرئيسية .. في البداية ذُهلت "أحلام" بما تراه من حولها، مجموعة من العمال يحملونها بكل خفة، ولا تدري إلى أين يمضون بها، أرادت أن تصرخ، أن تركلهم برجلها، أن تلفت انتباهمم بأي طريقة بأنها حية ترزق، ولكن دون جدوى .. كانت دماؤها قد تجمدت، تعابير وجهها ثابتة كما لو أنها قُدت من صخر، صرخاتها مخنوقة لا تغادر صدرها ..

مضى على وجودها ثلاثة أيام، تحوّل إحساسها بالبرد إلى شعور بالخوف وعدم التصديق لما يحدث لها، ذرفت دمعتين، نزلتا على خدها دافئتين، فأذابتا الجليد في طريقهما .. ثم تبلورتا كلؤلؤتين نادرتين .. تنبّـه فني الصيانة للأمر، فجاء بريشته وصبغ دموعها بالأزرق الفاتح .. وعاد للخلف خطوتين يتفحص تناسق الألوان .. وقال: بالفعل هكذا أجمل .. تجمع السياح والمسافرين للالتقاط صورة تذكارية مع التمثال المدمع ..

في الأسابيع التالية بدأ خوفها يتبدد شيئا فشيئا ليحل بدلا منه إحساس قاتل بالحنين، ومع الوقت اعتاد الناس على وجودها، حتى أن عدد الذين يلتقطون صورا معها أخذ يتناقص بالتدريج، وأحيانا كانت تمضي أياما وليال دون أن يقترب منها أحد، ولو من باب الفضول .. الأمر الذي فاقم من إحساسها بالملل والضجر .. وحتى هي التي كانت مبهورة بأضواء المطار، وأعداد المسافرين، وتنوع أشكالهم؛ أخذت تتأقلم مع الوضع، ولم تعد تأبه بحركة المسافرين من حولها ..

أشد ما آلمها، وما كان يخنقها أن أهلها لم يسألوا عنها، ولم يعثر عليها أحد حتى الآن، وطالما تساءلت بحيرة: ألم يخطر ببال أحدهم أن يفتش عني في هذا المطار اللعين !! حتى غسان .. لو كلف نفسه عناء التفكير لوجدني بسهولة، مسمّرة مكاني منذ أشهر .. هل كانت وعوده كاذبة ؟! هل انتظرني بالفعل في "كراكاس" !؟ أظن أنه تزوج من غيري، ولديه الآن نصف دزينة من الأولاد ..

بعد مضي سنوات على تجمدها، أخذ شكلها يتغير، التجاعيد تتسلل إلى وجهها، وألوانها تبهت .. قلقت إدارة المطار على مصير التمثال وخشيت عليه أن يبلى، إلى أن جاء رسام عابر، وطلاه باللون البرونزي، فقررت الإدارة أن يتم طلاؤه كل سنة بنفس اللون، أو بدرجة أقل أو أكثر حسب ما يراه الرسامون .. كانت الأصباغ تخنقها، وتحاصرها .. وتتركها في حيرة من أمرها .. وذات مرة حاولت أن تخرمش الرسام، فشد على معصمها إلى أن سال دمها .. بقدر ألمها فرحت، واستبشرت خيراً؛ بأن الرسام سيتنبه لدمها، ويقتنع بأنها إنسانة حية .. لكنه بدلا من ذلك قرر أن يصبغها كلها بالأحمر القاني ..

مرت عليها سنين طويلة، وهي تنتظر .. وتراقب، وتتأمل وجوه الناس من حولها .. آلاف البشر، من مئات الجنسيات، بيض وسود، صغار وكبار، طلبة ورجال أعمال .. الكل في حركة دؤوبة، يأتون من كل بقاع الأرض، يقضون سويعات قليلة، ثم توزعهم الطائرات إلى مدن العالم .. الأضواء هنا لا تنطفئ، حتى أنها لم تعد تميز الليل من النهار .. مغادرون وقادمون .. قصص النجاح والخيبات، وحكايات الغدر والألم .. وعذابات الناس .. تختصرها لحظات اللقاء والوداع، كانت تقرؤها في عيونهم بسهولة، بعضهم يبكي في وداع حبيب سيسافر .. وبعضهم يبكي فرحاً لرؤية حبيبٍ طال غيابه .. كانت تتعاطف بشكل خاص مع أولئك الذين يغادرون دون أن يودعهم أحد، أو يأتون ولا يجدون من يفرح لمجيئهم ..

كانت تتسلى بقصص المسافرين، تسمع أحاديثهم بحيادية، تستغرب من أسباب صراخهم، ومن تعجلهم المحموم، ومن قلقهم غير المبرر، لكن أشد ما كان يدهشها تغير أشكالهم من سنة إلى أخرى، تغير ملابسهم، تسريحاتهم، طريقتهم في التعبير، الأشياء التي يحملونها بين أيديهم .. فتنظر إلى نفسها بإشفاق .. نفس الفستان الذي خرجت به قبل زمن بعيد، شعرها بعد أن تساقط وضعوا لها بدلا منه باروكة، اعتادوا تبديل لونها كل سنة، بحسب لون جسمها .. أمّا الملابس التي في حقيبتها فلا شك أنها تلفت .. ومع ذلك؛ فإن الشيء الوحيد الذي كان يعزيها، أن الجميع من حولها يكبر .. أما هي فما زالت شابة، في مقتبل العمر !!!

اعتادت أن تختلس النظر في مرايا المسافرين، كلما جاء أحدهم ليلتقط لنفسه صورة معها، فلا تصدق أن شكلها لم يعد كما كان .. فتسألهم واحداً واحداً: ألا يحمل أحدكم مرآة للروح .. أشتاق لرؤية نفسي .. اشتقت للشمس .. يسمعونها ولا يصدقون .. ويمضون في طريقهم غير آبهين ..

في غمرة أحزانها تلك، أدركت بأن الزمان قد نسيها؛ فتذكرت أباها وترحّمت على روحه .. تذكرت معطف أمها .. وعود غسان .. صديقاتها .. شجرة التوت الكبيرة .. وتساءلت بحرقة: من منهم مات !؟ ومن منهم ما زال على قيد الحياة ؟؟ هل سيعرفني غسان إذا مر مصادفة من أمامي ؟؟ هل سيسمع صرخاتي الدفينة ؟؟ هل سيشتم عطري الأثير ؟؟ ربما بعد كل هذي السنين مات وشبع موتا ... قد يمر ابنه الأوسط، أو حفيده الأخير .. هل سيحبني بنفس الدرجة ؟! وهل سيكرر نفس الوعود !؟ لكني لا أصلح له، حتى لو بديت لنفسي شابة ..  

تعبت "أحلام" من الوقوف طويلا بنصف خطوة، على قدم واحدة، تعبت من ترددها، من حيرتها أي طريق ستستلك إذا عادت للحياة، تعبت من خوفها، ومن الانتظار .. ومن إدارة ظهرها للوقت .. قررت أن تنهض، لكن إدارة المطار لاحظت أن التمثال على وشك السقوط، فقررت أن تسنده إلى الحائط، أو على عامود خشبي، وأن تثبته بالبراغي والمسامير .. أرعبتها الفكرة تماما، يا إلهي .. سيدقون المسامير في أطرافي .. سأختبر آلام الصليب .. عاشت ساعات من الذعر .. وفي نفس المساء سمعت عبر مكبرات الصوت أن طائرة قادمة من مدينتها ستصل المطار غدا قبل الظهر .. ربما تحمل بعضا من أهلها .. ولأول مرة منذ زمن سحيق نامت أحلام ليلة طويلة وهي تنتظر بقلق مرعب مشوب بالأمل ..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق