أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 09، 2014

تائه في مدينة


كانت المدينة تطوق ذراعيها للقادمين .. والناس تؤمّها من كل صوب وحدب .. في الأول من حزيران وصل
َ مدخلها الجنوبي، فوجده مزدحما، السيارات بطيئة للغاية، وبالكاد تمشي في كل ساعة بوصة واحدة، ترك السيارة في منتصف الطريق ثم فكك عجلاتها، ودسّها في حقيبته غير آبه بحفلة الزوامير والمنبهات والشتائم التي انطلقت دفعة واحدة، واصل المسير .. وحيدا .. حتى وصل محة القطارات .. فوجد أعداداً لا حصر لها من البشر .. الكل يركض بشكل محموم، وفي شتى الاتجاهات، قبل أن يصل القطار بدقائق تكثفت الجموع البشرية بسرعة، ثم سارت مندفعة كنهر فاض فجأة، وحملته دون أدنى اعتراض منه إلى بوابة القطار، وأرغمته على الدخول .. وبعد محطتين أنزلته بنفس الطريقة .. لم يتسنى له أن يعرف رقم القطار، ولا عنوان المكان الذي وجد نفسه فيه .. صوّب ناظريه يمنة ويسرة، بهرته الأضواء وانعكاساتها على خد النهر، والنساء الرشيقات، وقد ارتدين ملابس ضيقة ليبدون أكثر نحافة، والبنايات اللائي يعانقن الغيوم .. أخذ يقرأ اللافتات المعلقة على كل حائط: "كل ما تحتاجه تحت سقف واحد"، "أمِّن مستقبلك معنا"، "سافر معنا إلى عالم الأحلام" ، "تنزيلات حقيقية، فلا تضيعوا الفرصة" .. شعَر بإثارة غامضة، وباندفاعٍ غامر نحو شيء مجهول، لا يعرف له سبباً ..
سأل أحد المارة: أين تقع السينما ؟ أجاب: لا أعلم. طيب، أين هو جامع البلد ؟ أيضا لا أعلم. إسمع، في الحقيقة لستُ فنانا، ولا متدينا، فقط أبحث عن حمّام .. نظر إليه بإشفاق، ثم أشار إلى عمارة زجاجية ضخمة، وقال: ستجد خلفها سيدة مسنّة، هي ستساعدك. نظر إلى البناية بارتياب، كانت على يمينه وتحجب عنه الشمس تماما، ظل يمشي بجوارها دون كلل، وعندما وصل آخرها كان الصيف قد انقضى، ولم يتبقَّ منه سوى الغبار المتراكم فوق النوافذ، أما الشمس فقد توارت خلف غيوم الشتاء .. سألته السيدة بحياد: هل تفتش عن عمل، أم تبحث عن منزل، أم تركض خلف فرصة ؟! كل شيء موجود في هذه المدينة المجنونة .. بل أبحث عن حمّام ..
سار طويلا حتى تعب.. بعد شهرين من المسير أنهكه التعب، واصل التعب .. وبعد ثلاثة أعوام، بدأت تجاعيد الزمن تظهر على وجه المدينة،  ثم على رقبتها .. عشرات مفترقات الطرق، التي تُفضي إلى مئات الشوارع .. المدينة متاهة .. في كل يوم كان يموت شارع جديد، وقبل أن يحل الخريف لم يتبقَّ سوى شارع وحيد .. طويل جدا، أحيانا يمتد على استقامة مملة، بلا نهاية، وأحيانا يتعرج بشكل متهور .. لم يكن أمامه من خيار سوى مواصلة المشي، كل المنافذ والشوارع الفرعية المؤدية إليه كانت مغلقة، حتى الأزقة الضيقة، إمّا بأمرٍ من شرطة السير لأن "الرئيس" سيمر بعد قليل .. ولا أحد يعلم متى ينتهي هذا القليل، وإما أغلقتها البلدية للتصليحات، أو احتلها الباعة الجائلون .. أو سدها محتجّون على اتساع ثقب الأوزون ..
أحس بالحنق، وبالغضب .. وقف على ناصية الرصيف، وهدد المارة دون أن ينظر إليهم: عندما أنتهي من هذه المدينة سأنزل بها أشد العقاب .. أما أنتم فسأركلكم على مؤخراتكم ..
هطل المطر بشدة، فاختبأ تحت الجسر، بدأت مشاعر اليأس تتسلل إلى شرايينه .. وهناك على مقعد خشبي استسلم للنعاس، وللبرد، وقبل أن يغفوا  شاهدَ خلفه مباشرة رجل طويل، نزع معطفه وألقاه فوقه بهدوء،  ابتسم له: أبي .. أين الوعد الذي طردتني من البيت لأجله ؟! أشار بذراعه على امتدادها نحو الشمال، وقال له كلمتين فقط، ثم دخل في غيمة من الضباب واختفى بسرعة كما لو أنها ابتلعته .. شعر باليتم من جديد، لم يطرق رأسه للحزن هذه المرة، لكن أطرافه كانت ترتجف، نظر من حوله، كانت الأشجار عارية تماما .. الأسفلت بدا نظيفا بعد أن غسله المطر، لكن لونه كالحا .. أما الرصيف فقد نبتت عليه أعشاب خضراء يانعة .. دس قدميه في حذائه، ثم فتح حقيبته وخبّأ فيها أحلامه وخيباته وأغنياته المفضلة، ثم أخرج الإطارين المطاطيين، وانطلق .. من بعيد رأى لافتتين، حثَّ الخطى ليقرأ ما كُتب عليهما، ولما اقترب منهما اتضحت له الصورة .. طُبع على الأولى سهم يشير إلى وسط البلد، والثانية عبارة "رافقتكم السلامة" .. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق