أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 05، 2013

درويش المنسي


هذا هو حال جامعة العلوم الإنسانية على مدار العام: خلية من النشاط الدؤوب؛ طلبة قدامى يستعرضون مهاراتهم أمام طلبة جدد، أساتذة يفتحون مكاتبهم لاعتراضات الراسبين، أحزاب سياسية تتسابق على أصوات الناخبين في حمّى الانتخابات، مخبرين يعدون تقاريرهم الكيدية، مظاهرات بسبب وبلا سبب أحيانا، حرس الجامعة يفتشون عن متلبسين بجرم الحب، وفود تحضر ووفود تسافر، نقاش فكري حول نظرية الخلق يتطور إلى معركة بالأيدي، منظّرين يتجادلون حول معارك النهروان وصفّين وعلاقتها بالربيع العربي، وآخرين يختلفون حول ميزات الآي فون والجلاكسي، حرب باردة بين الطلبة على اقتناء أحدث السيارات، وسباق أزياء بين الطالبات  ..
تتألف هذه الجامعة من اثني عشر بناية، تتوزع على جانبي شارع رئيسي معبد على شكل منحنى، وتتخللها ممرات مبلطة بعرض مترين، وساحتان كبيرتان: الأولى تقع في وسط الجامعة وقد خُصّصت لإقامة المهرجانات الخطابية، والثانية تقع على الطرف الغربي منها، وهي معَدَّة للنشاطات الرياضية، بالإضافة لحديقة مشجّرة مساحتها تتجاوز الثلاثة دونمات تقع في آخر الجامعة، إلى جانب ستة حدائق صغيرة متناثرة مزروعة بالورود والأزهار الموسمية وبعض نباتات الزينة، وساحة صغيرة بمساحة ربع دونم مزروعة بالنجيل الأخضر .. وهذا هو عالم "درويش" الذي أمضى فيه ثلاثة وعشرين عاما متواصلة؛ يتنقل من حديقة لأخرى، ومن الشارع الرئيس لممراته الفرعية.
اعتاد "درويش" أن يبدأ يومه بجولة صباحية على الحدائق؛ يقلّم هذه الشجرة، ويسقي تلك النبتة، يقص النجيل، ويرش الأشجار بالمبيدات .. ثم ينتقل بمكنسته يجوب الممرات، ويلتقط قصاصات الأوراق وأكياس النايلون وعبوات العصير الفارغة، وفي ساعات ما بعد الظهر يكنس الشارع الرئيس، ويجمع أكياس النفايات، ثم ينهي يومه بالتوجه للحافلة؛ فيجلس في المقعد الخلفي منهكا وقد هدّه التعب، ولا يكاد يصل البيت ويتناول عشاءه حتى يكون قد غطَّ في نوم عميق.   
هكذا يمضي "درويش" نهاره منهمكا في عالمه الخاص، منطويا على نفسه .. لا يجد من يكلمه؛ فالطلبة مشغولون ببعضهم؛ كل شاب يسعى لانتزاع إعجاب فتاة، وكل فتاة تحلم بإنهاء الجامعة بشهادة مع عريس، أما الهيئة التدريسية فهي منشغلة بالأبحاث والتحضير للمحاضرات، الكادر الإداري منشغل بقضايا الموظفين، وهؤلاء منشغلون بالرواتب والعلاوات والترقيات، اتحاد الطلبة منشغل بتجهيز منصة الخطابات وطباعة المنشور .. أما درويش فمنشغل بنفسه ..
في أول شبابه، وكان قد مضى عليه سنتين من تسلّمه العمل مسؤولا عن نظافة شوارع الجامعة والعناية بمرافقها، في تلك الأيام أُعجِبَ بفتاة؛ طاردها بعينيه، جمَع عنها ما يحتاجه من معلومات، كان قلبه يخفق بشدة كلما مرّت أمامه بخيلائها تمشي مثل مهرة، تضحك مع زميلاتها، كانت دائمة الضحك، وهو دائم النظر إليها .. انتظرها كثيرا، أخيرا لاحت له الفرصة، رآها تمشي وحيدة باتجاه البوابة الرئيسية، لم يعرف كيف يبدأ بالحديث معها، تلعثم، ارتبك، وأخيرا قال لها بصوت مضطرب: هل تسمحين لي بزيارة أهلك هذا المساء ؟؟ نظرت إليه بتعجرف، وقالت بكلمات قليلة: "أنتَ بالكثير ممكن أسمحلك تقلّم الدوالي اللي بحديقتنا" .. كان ردها قاسيا، وقد ترك جرحا غائرا في نفسه ظل ينزف سنوات كثيرة ..
بعدها بسنة التقى بالصدفة مع رئيس قسم علم النفس وجها لوجه، فما كان منه إلا أن ابتسم له قائلا: صباح الخير أستاذ "نادر". نظر إليه الأستاذ مستغربا، تأمله قليلا ثم ناوله كرت صغير عليه اسمه وعنوانه، وقال له: يمكننك زيارتي في العيادة أي يوم ما عدى الجمعة والسبت. أجابه: ولكني لست مريضا يا أستاذ. فرد عليه وهو يمشي ويلتفت للخلف: لا تقلق بشأن الأجر، لن آخذ منك شيئا، أنا مهتم بدراسة الحالات الغريبة ..
كان على وشك التعافي من جرح الفتاة التي أحبها من طرف واحد، فجاء الأستاذ وفتح له جرحا جديدا .. بات يشك بنفسه بأنه حالة غريبة بالفعل .. وهكذا شيئا فشيئا صار يتجنب النظر في عيون الآخرين .. يكمل نهاره دون أن ينبس ببنت شفة، يظل غارقا في صمته وسط محيط يضج بالصراخ، منطويا على ذاته في عالم يموج بالحركة .. صار يحس أنه مخفي، شفاف .. لا يراه أحد، لا يبتسم لأحد، ولا أحد يبتسم له ...
في ساعات الظهيرة أيام الصيف القائظ، يشتد عليه الحر، فيبحث عن ظل شجرة، يجلس تحتها يتأمل الناس، ويقرأ وجوههم. أما في الشتاءات الماطرة، حين يصبح البرد قارصا لا يحتمل، وتخلو الشوارع إلا من عدد قليل من المارة .. يلجأ إلى غرفته الصغيرة، هي ليست غرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، هي أشبه بمخزن صغير، تكدست فيها عدّة الشغل: فؤوس، مجارف، أمشاط الأرض، ماكينة قص النجيل، مضخة رش المبيدات، مكانس .. هناك يجلس وحيدا، يوقد ناره، ويلوذ إلى أفكاره وأحلامه وهواجسه ..  
في الشتاء الأخير، خرج الطلبة في تظاهرة حاشدة، متجهين نحو البوابة الرئيسية، رافعين اليافطات والأعلام، وهم يصرخون ويهتفون بحماسة ويشتمون الحكومة .. كانوا قد قرروا الخروج للشارع، فيما كانت أجهزة الأمن تنتظرهم، بدأ تراشق الحجارة والزجاجات الفارغة، فرد عليهم الجنود بالغاز المدمع، والرصاص المطاطي، اشتبك الطرفان، اندلعت بعض النيران، سقط البعض مغشيا عليه، وأخيرا اقتحم أفراد الأمن باب الجامعة، طاردوا الطلبة لاعتقال من تطاله أيديهم، وتكسير أطراف من يقاومهم.
كانوا مهتمين باعتقال "عمر سمعان" بشكل خاص، فهو رئيس اتحاد الطلبة، والمحرّض الأول، وقد سبق لهم اعتقاله مرات عديدة. ركض "عمر" بين البنايات، حاول العثور على مكان يختبئ فيه، ثم اتجه صوب الحديقة المشجّرة، فوجد نفسه فجأة أمام غرفة "درويش" .. لم يطرق الباب؛ بل دخل مسرعا وأغلق الباب من خلفه وهو يلهث، تفاجأ من وجود ثلاث شبّان آخرين وصبيتين، يجلسون حول كانون "درويش" الذي بدأت جمراته تخبو شيئا فشيئا.
قال لهم "درويش": يبدو أن ضيافتكم عندي ستطول بعض الوقت، فمن تجربتي أعلم أن أفراد الأمن ومعاونيهم لن يخرجوا من حرم الجامعة قبل المساء، وقبل أن يعتقلوا كل من يبحثون عنه .. وإذا لم تخرجوا لن يدخل عليكم أحد .. فهذه الغرفة لم يدخلها مخلوق غيري منذ عشرات السنين ..
نظر الجميع لبعضهم البعض مذهولين، فأكمل "درويش": هذه ليست المرة الأولى التي يقتحم فيها الأمن بوابات الجامعة، قد تكون هذه الثالثة أو الرابعة .. قرأ "درويش" الاندهاش على وجوه الطلبة، ومع ذلك أكمل حديثه: لقد مرَّ عليّ آلاف الطلبة والأساتذة، وتخرجت أفواجا كثيرة، ومنهم من شغل مناصب مهمة، أعرف معظمهم، أراهم أحيانا في السوق، أو في الجامع لكنهم لا يعرفوني .. أو ربما يتجنبون الكلام معي .. هكذا اعتدت على الناس، يمرون من جانبي ويتجاوزون عني كما لو كنت ظل عامود، أو شجرة .. أو قط أليف !!
أنت الخير والبركة يا عم "درويش". أجابه: شكرا على المجاملة أستاذ "عمر". نظرَ إليه "عمر" متعجبا، وقال: تعرف اسمي كمان !! رد عليه بهدوء: أسمعك دائما تلقي الخطابات. وبالمناسبة اسمي ليس "درويش"، اسمي الحقيقي "منتصر" .. الناس سموني درويش، والظروف جعلتني منسيا؛ فصرت "درويش المنسي"، أما أنا في الواقع فشيء آخر .. صمت قليلا ثم أضاف: دعوني أخرج دقائق قليلة لأتفحّص لكم الوضع.
ما أن خرج "درويش" حتى همس "عمر" بصوت منخفض: "اسمعوني جيدا، هذا الذي اسمه درويش أو منتصر، لا يهم، أنا متأكد أنه مخابرات، إنه يعرف اسمي، وربما يعرف أسماءكم جميعا، ويريد أن يستدرجكم بالحديث .. فانتبهوا له". أثنى "جميل" على كلام "عمر" مؤكدا: "انظروا هناك، ألا ترون تلك الأوراق المكومة في الزاوية؛ فيها منشورات تعود لعشرين سنة خلت، إنه يجمع كل الوثائق المتعلقة بالعمل النضالي، ربما هو أخطر مما تظنون". قالت "هناء": "أنا أختلف معكم يا جماعة، إنه إنسان بسيط، مهذب، وهو على درجة جيدة من الثقافة، ربما إنه متعلم، أو أنه يواظب على قراءة منشوراتنا، والاستماع لخطاباتنا، أرجوكم لا تتسرعوا بالحكم عليه". ثم أكّد "أكرم" ما قالته "هناء"، فقال: "هو إنسان وطني مثلنا، وقد يكون أفضل من البعض، وربما لو سمحت له الظروف لكان الآن هو رئيس الاتحاد". لم يعجب هذا القول "عمر"، الذي عاد لاتهامه بالتعاون مع إدارة الجامعة ومع الأجهزة الأمنية ..
بعد قليل، عاد "درويش"، مبتسما، كانت أول مرة يراه الآخرين مبتسما، قال لهم: أعتقد أن أفراد الأمن غادروا الجامعة، بإمكانكم الخروج مطمئنين، مع أني كنت أتمنى أن تظلّوا للمساء .. فعندي كلام كثير أريد أن أحكيه .. منذ زمن طويل لم يكلمني أحد .. كنت أود مناقشة الأستاذ "عمر" بشأن البيان الأخير، هناك مغالطة تاريخية وقع فيها، كنت أود أن أقول للأخت "هناء" أن الشاب الذي يركض خلفك كذاب ومخادع .. وكنت أريد القول ...
حسناً، حسناً .. ربما نأتي مرة ثانية، هذه المرة نحن مستعجلون .. خرجوا بسرعة، ذابوا بين الجموع كما لو أنهم لم يكونوا .. امتعض "درويش" قليلا، وقال في نفسه: حتى أنهم نسوا أن يقولوا لي شكرا على الضيافة، شكرا لأنك خاطرت بإيوائنا .. لكنه شَعر بنوع من الرضا والسعادة .. وقال: حتما ستعود "هناء" لتعرف حكاية "علاء" الذي يطاردها .. ابتسم وقد أيقن أنه من اليوم فصاعدا سيجد من يكلمه، من يقول له صباح الخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق