في خطابه التاريخي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، تناول الرئيس محمود عباس كافة قضايا الحل النهائي، دون أن يتجاهل أيٍ منها، وهي ما درج على تسميتها بالثوابت الوطنية، والتي أكّد عليها في مناسبات سابقة، كما أكّدت عليها كل القيادات الفلسطينية من مختلف التيارات والتنظيمات، ولكن المهم هو أن عباس طرحها بشجاعة وثبات ومن على أهم منبر دولي، وتمكن من انتزاع تأييد وتفهُّم قادة دول العالم أجمع، حيث صفق له الحضور مرارا وتكرارا كما لم يفعلوا مع أي زعيم آخر. بينما غادرت القاعة أغلبية الحاضرين عندما بدأ نتنياهو إلقاء خطابه المرتبك. وقد تحدث عباس عن النكبة واللاجئين وحق العودة بلغة عصرية وقانونية، دون أن يغوص في تعقيدات التاريخ، وتحدث عن القدس والحدود والاستيطان والمياه وحق تقرير المصير، وأكد على أن منظمة التحرير ستبقى الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وطالب بتحرير الأسرى، ومواصلة المقاومة الشعبية، واستكمال جهود المُصالحة الوطنية.
كان خطابه عقلانيا هادئا، فأقنع العالم بعدالة القضية، بعد أن كاد يصدق الرواية الإسرائيلية. وخطابا عاطفيا لامَسَ القلوب، فاكتسب تأييد وتعاطف كل من استمع إليه، وكثير منهم ذرفت عيناه بالدموع، وكان متزنا وواقعيا، حتى أن دولا كثيرة طالما تساوقت مع الأطروحات الإسرائيلية بدأت تعيد حساباتها، ودولاً أخرى استجابت له وأعلنت اعترافها بدولة فلسطين. كان خطابه شاملا وقويا ومؤثرا بحيث جعل من الدورة 66 للجمعية العامة دورة القضية الفلسطينية بامتياز، وهو أمر لم يسبق أن حدث في تاريخ المنظمة الدولية. ما يعني أن الخطاب أعاد للقضية الفلسطينية دورها المركزي، ليس على المستوى الإقليمي بل على مستوى العالم.
الأمر الأهم الذي ميز خطاب الرئيس أبو مازن، أنه عبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني، ووصفها بلغة شاعرية وواقعية، تحدث عن جدار الضم والتوسع، عن اعتداءات المستوطنين، عن الحواجز المهينة، عن المداهمات والاعتقالات والاغتيالات، وتدمير المنشآت، عن إعاقة إسرائيل لنمو الشعب الفلسطيني نموا طبيعيا، عن حق الشعب في حياة حرة كريمة.
الأمر الآخر الذي ميز خطاب أبو مازن أنه تمكن من تعرية الصورة الزائفة لإسرائيل، التي حرصت عليها عقودا طويلة، فأظهر وجهها القبيح، وبيّن للعالم ممارستها العنصرية وأطماعها التوسعية، وأنها هي التي تقف حجر عثرة أمام السلام، وأن سياساتها العدوانية وتشددها كانتا الصخرة التي تتحطم عليها آمال التسوية، وحمّلها مسؤولية تعثر المفاوضات، وأن نهجها العقيم في إدارتها واستمرار الاستيطان كانا السبب في خروجها بنتائج متواضعة، أو حتى بدون نتائج. وما ميز انتقادات عباس اللاذعة لإسرائيل، أنها جاءت في زمن النفاق العالمي، والعجز العربي، حيث لم يعد يجرؤ أي رئيس دولة أن ينتقد إسرائيل، خشية تعرضه لتهمة اللاسامية، أو خوفه من غضب أمريكا عليه. لكن عباس فعلها بشجاعة وحكمة وبلغة بسيطة، بالشكل الذي حَرَم دوائر اللوبي الصهيوني وإعلامه من سلاح الاتهام الجاهز باللاسامية، أو بالتطرف، أو عدم وجود شريك للسلام.
كما وجه عباس نداءه للعالم، بأن يكون مع الحق، وأن يقف إلى جانب المظلومين، وأن لا يسمح لإسرائيل بمواصلة سياساتها العنجهية وتعاملها مع الأمم المتحدة باستخفاف، وأن يرفض النظر لإسرائيل على أنها دولة فوق القانون. وعلى ما يبدو أن شعوب العالم وقياداته كانت تنتظر مثل هذه الفرصة، بعد أن ضاقت ذرعا بالاحتلال الإسرائيلي وسياساته العدوانية.
ولكن أخطر ما مثلته خطوة أبو مازن في الأمم المتحدة، هو إصراره على تقديم طلب الحصول على اعتراف بالدولة، وبالذات من مجلس الأمن، خلافاً للرغبة الأمريكية، حيث أنه قال لأمريكا (لا) في عقر دارها، وهو يعلم أن سلفه الراحل ياسر عرفات دفع حياته ثمنا لمثل هذا الموقف، ومع ذلك فقد رفض عباس الرضوخ لكل الضغوطات التي واجهها من أمريكا، ومن الرباعية، ومن بعض الدول الأوروبية، وطبعا من إسرائيل، سواء بقطع المساعدات، أم بفرض الحصار على السلطة، أو إعادة احتلال الضفة، وبما في ذلك إنهاءه سياسيا.
وبذلك فإن عباس يكون قد أعلن للعالم بأن زمن التفرد الأمريكي ومنهج الكاوبوي قد انتهى بلا رجعة، ويكون قد منح الزعماء العرب وقادة العالم الثالث فرصة تاريخية بأن يقفوا نفس الموقف، ليعيدوا تصحيح مسار التاريخ باتجاه الحق والعدالة. قد يقول البعض أنه من السابق لأوانه القفز لمثل هذه الاستنتاجات، ولكن لكل شيء بداية، وهذه بداية الطريق لشعوب العالم أن تتحرر من الهيمنة الأمريكية.
لقد وصل عباس إلى هذه المرحلة بعد أن يأس من المفاوضات، وأيقن أن النهج القديمة الذي سيرها عقدين من الزمان هو نهج عقيم، لن يحقق من وراءها شيئا، وبعد أن تأكد بالملموس أن أمريكا لن تقدم له سوى معسول الكلام، وستبقى أسيرة هيمنة اللوبي الصهيوني، وأسيرة لعبة الانتخابات، في حلقات مفرغة مستمرة. علماً بأن عباس كان قد أبدى استعداده لقبول أي اقتراح عملي وتفهّم أي مبادرة جدية، ولكن كل ما عُرض عليه من مقترحات كان عبارة عن صك استسلام وبشروط مذلة، كقبول المفاوضات دون مرجعية، ودون وقف الاستيطان أو تحديد سقف زمني، ومع الاعتراف بيهودية إسرائيل.
بمعنى آخر، يمكن القول أن خطوة الرئيس عباس بطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومن خلال مجلس الأمن، تعني أولا تدويل القضية الفلسطينية، أي الخروج من الصيغة السابقة التي حكمت الصراع بعد اتفاق أوسلو، والقائمة على مبدأ أن الحل يمكن أن يتحقق من خلال اتفاق طرفيّ الصراع ( إسرائيل وفلسطين )، وهذه الصيغة كانت على الدوام تجعل اليد الطولى لإسرائيل، وتجعلها المسيطرة في إدارة الصراع، القادرة على فرض الحل، والمتحكمة في كل مخرجات التسوية ومدخلاتها، وكانت تلك الصيغة تحصر الحل فقط من خلال المفاوضات، بينما يراقب العالم ذلك وينتظر النتائج، وتعطي لأمريكا صفة الراعي ( المنحاز دوما ) الذي كان يمارس الضغط فقط على الطرف الأضعف، إي على السلطة الوطنية. وثانيا - وهو الأهم – فأن تدويل القضية الفلسطينية يعني إمكانية التوصل إلى حل للصراع من خلال فرضِهِ على إسرائيل، وإجبارها على تقديم تنازلات حقيقية في المفاوضات، بحيث يتمكن العالم من التأثير على سيرها، بدلا من الاكتفاء بدور المتفرج، وتعني أيضا تغيير قواعد اللعبة كليا، بل وتغيير اللعبة كلها وتغيير الملعب، وذلك من خلال تغيير أسس ومنهجية التفاوض، أي بتحديد سقف زمني لها، ومرجعية دولية، وأن تكون بهدف تنفيذ الاتفاق، لا بهدف التفاوض نفسه، وبحيث تُفضي في نهاية المطاف إلى دولة فلسطينية مستقلة، بالشروط التي تلبي مصالح الشعب الفلسطيني، ووفق قرارات الشرعية الدولية، ومع حل كافة قضايا الوضع النهائي، وفي مقدمتها قضية اللاجئين.
حيث أن ما جرى في المرحلة السابقة هو نقل ملف القضية من إطارها الدولي والقانوني، إلى إطار التفاوض الثنائي، وحصرها في هذا الحيز الضيق، فإذا كانت الصيغة الدولية أقوى، لأنها مدعومة بقرارات أممية ومرجعيات حقوقية واضحة، فإن الحيز الثنائي يعني تجريد الفلسطينيين من عناصر القوة الأهم المتوفرة لديهم. وهذا ما كان في صيغة المفاوضات السابقة، حيث فقد المفاوض الفلسطيني الكثير من أوراق الضغط، بعد أن ابتعدت القضية كثيرا عن الساحة الدولية، وبالذات الأمم المتحدة، وأقيمت المفاوضات في الملعب الإسرائيلي- الأميركي. حيث كانت اللعبة والحَكَم فاسدون، وفي النتيجة دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً.
ومن هنا تكمن أهمية وقيمة الخطوة الفلسطينية: وهي خلق مسار جديد للمفاوضات، والتوجه إلى ملعب جديد. وقد أدركت أمريكا حجم المأزق الذي وضعها فيه عباس، حيث أن الوصول إلى مجلس الأمن سيضطرها لاستخدام الفيتو، الأمر الذي سيسبب لها حرجا هي في غنى عنه، خاصة في هذا الوقت بالذات، حيث استطاعت أمريكا أن تقيم علاقات جيدة مع العديد من دول وشعوب المنطقة، وبَنَتْ لنفسها صورة إيجابية جديدة ومختلفة، بعد دعْمها لخيارات الشعوب المنتفضة في زمن الربيع العربي، وهي لا تريد أن تخسر تلك الصورة، ولا تريد أن تسبب حرجا لحلفائها أيضا، ولا تريد أن تضع نفسها في عزلة دولية، أو أن تبدو على تناقض مع الإرادة العالمية في تأييد الشعب الفلسطيني، وكأن الولايات المتحدة تريد أن تؤكد للعالم وخاصة الشعوب العربية أنها ضد الحقوق الفلسطينية عمليّاً، على بالرغم من فصاحة الخطاب والوعود والتصريحات الرسمية، وهو ما بدا واضحا في مقر الأمم المتحدة أثناء وبعد إلقاء عباس خطابه الشهير.
والأمر يتعدى قصة الإحراج من الفيتو، لأن أمريكا تدرك أن تغيير أسس التفاوض يعني خسارتها للسيطرة المطلقة على مقاليد الأمور، وتعني فتح الباب أمام القوى الجديدة المنافسة للدور الأمريكي، وتعني كسر الاحتكار الأميركي وسيطرته الحصرية على مجريات المستقبل الفلسطيني، وتعني انتزاع زمام المبادرة والفعل من إسرائيل وأميركا، وعكس مجرى التحكم في الأمور، الذي ظل بقبضتهما خلال السنوات العشرين الماضية.
وسواء نجح الفلسطينيون بالحصول على عضوية كاملة لدولة فلسطين، أم أخفقوا في ذلك، بسبب الفيتو الأمريكي، فإن واقعا جديد سينشأ، حيث سيحصلون على دولة غير كاملة العضوية بعد تصويت الهيئة العامة، وهذا يعني أن الوضع الجديد سيكون قوامه "الوجود القانوني الدولي" لدولة فلسطين، وبالتالي لن تستطيع إسرائيل أن تدعي أن التفاوض يتم على أراضي متنازع عليها، لأن أراضي دولة فلسطين تشمل كل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حزيران 1967، بما فيها القدس؛ ويكفي أنْ ينشأ هذا الوضع حتى تشتد صلابة المفاوض الفلسطيني ويمتلك واحدة من أهم أوراق الضغط، وهي أن ثمة دولة معتدية تحتل دولة أخرى عضوا في الأمم المتحدة، والمفاوضات تجري بين دولتين.
أهم ما ميز خطاب أبو مازن، أنه بينما كان يلقي خطابه ويعلن ميلاد الربيع الفلسطيني، كان شعبه يهتف بحياته ويعلن تأييده الواضح له، وكان البرق الفلسطيني يومض في سماء نيويورك، والعالم يقف احتراما لعذابات الشعب الفلسطيني وتطلعاته، في نفس الوقت كانت الشعوب العربية تهتف ضد حكامها وتطالب بإسقاطهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق