أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 06، 2011

درس من اليابان

نلاحظ أنه في معظم الحالات التي تتعرض فيها البلدان لكوارث طبيعية أو حروب أهلية أو في حالة حدوث فراغ سياسي نتيجة تحولات معينة، تبدأ الظواهر السلبية بالانتشار كأعمال السلب والسطو المسلح والقتل والفوضى بكافة أشكالها، وهذا يكون بسبب غياب مظاهر الدولة أو ضعفها، فإذا كانت مظاهر الدولة في المجتمعات المتخلفة تكاد تنحصر في وجود الأجهزة الأمنية، فإنها في دول متقدمة كأمريكا تكون مجسدة بهيبة الدولة ونظامها، ومع ذلك بمجرد أن تختفي هذه المظاهر لأي سبب حتى تعم الفوضى بين أفراد المجتمع مدفوعين بغرائزهم البدائية وبمشاعر الخوف والأنانية أو أحيانا بهدف اقتناص الفرصة وتحصيل مكاسب مادية، دون أي اعتبارات أخلاقية.


في أمريكا مثلا، عندما ضرب إعصار كاترينا مدينة نيوأورليانز قبل عدة سنوات، وتسبب حينها بتشريد الملايين وإلحاق خسائر فادحة بالاقتصاد الأمريكي، انتشرت على نحو خطير أعمال القتل والسرقة في عموم المدينة الغارقة في مياه الفيضان والفوضى على حد سواء، حتى اضطرت الحكومة لإرسال عشرات الآلاف من الجنود لضبط الأوضاع، وفي مصر وتونس أيضا وفي ذروة ثوراتها الشعبية، عندما اختفت قوات الشرطة فجأة انتشرت مباشرة عصابات السطو وأعمال الغوغاء على نحو خطير كاد أن يهدد تماسك المجتمع، وطبعا الأمثلة في هذا المجال كثيرة ولا مجال لحصرها هنا.

أما في اليابان، فالأمر مختلف تماما، عندما زرت متحف هيروشيما الذي يجسد مأساتها الأبشع في تاريخ البشرية، لاحظت وجود صورة لشرطي ياباني يرتدي الزي الرسمي ويمسك بيده قلما وورقة ولعله كان يدون عليها أسماء وأرقام الضحايا أو حجم الخسائر، الأمران الغريبان في هذه الصورة أنها أولا كانت الصورة الوحيدة التي سجلت في ذلك اليوم المشؤوم، حيث لم يجرؤ أي صحافي من الاقتراب من المحرقة، وثانيا أن الشرطي وبالرغم من كل شيء كان يقوم بواجبه، والأكثر غرابة أن جموع غفيرة من المواطنين هبت في الأيام التالية لمساعدة الضحايا، بالرغم أن الإشعاعات النووية كانت تلوث المنطقة بدرجة تكاد تكون مميتة، حتى أن ما تبقى من سلطات طلبت من الأهالي الرحيل بعيدا حتى لا تزيد أعداد الضحايا.

الدولة كانت منهارة، والحكومة منحلة والجيش مهزوم، وهناك انفجار نووي، ومع هذا لم تحدث أي أعمال فوضى، بل على العكس تداعت الأهالي لمساعدة بعضها !! يتكرر الأمر مرة ثانية في آذار 2011 عندما ضرب زلزال عنيف الشاطئ الشرقي الياباني – هو الأقوى من نوعه في تاريخ الأرض الحديث – ونجم عنه موجات تسونامي مدمرة تسبب بمقتل آلاف الضحايا وتشريد مئات الآلاف، والأخطر من كل هذا هو تسرب إشعاعات نووية من مفاعل فوكوشيما الذري، ورغم ذلك نجد أن اليابانيون تصرفوا بمنتهى التحضر، فلم نرى مشاهد النواح واللطم، بل رأينا حزنا إنسانيا سما على كل المشاعر والغرائز الأخرى، ورأينا طوابير المواطنين المنتظمة وهي تأخذ حاجتها فقط من المياه والطعام، بدون أن يصرخ أحد على الآخر أو يعتدي عليه، ولم يشتري أحد أكثر من حاجته، لم يمارس التجار عادتهم المعهودة باستغلال الوضع ورفع الأسعار، المطاعم خفضت أسعارها. أجهزة الصرف الآلي لم يحطمها أحد، لم تسجل حوادث سلب وسطو على المحلات، لم ينتهز الإعلاميون الظرف بخلق حالة رعب، لم يظهر مذيعون مهرجون، فقط تقارير مهنية هادئة وصادقة، لم تحدث حالة فوضى وتدافع، خمسون عاملا ضحوا بأنفسهم وظلوا داخل المفاعل النووي في محاولة لإصلاحه حتى لا تتفاقم مخاطر الإشعاعات، الكل عرف ماذا يفعل بالضبط، باختصار .. أظهر اليابانيون تحكما رائعا ومدهشا بكل شيء.

إن انتشار اعمل النهب والفوضى والتخريب في المجتمعات المختلفة ليست عملا استثنائيا, بل تكاد تكون ظاهرة تتكرر في كل مرة تتعرض البلاد لمحن وكوارث، ولكن في الولايات المتحدة يتم التمويه عليها وتبريرها تحت غطاء الديمقراطية والأموال الطائلة والقوّة والتزييف الإعلامي، بينما في المجتمعات الأخرى يتم تبريرها بنظرية المؤامرة وبأن هؤلاء الغوغاء هم فئة قليلة أتت من الخارج، وأن هذه الأعمال غريبة عن قيم المجتمع وثقافته !!

هذه القضية تدعو لطرح موضوع الأخلاق والقيم من منظور جديد، وتثير السؤال الهام: هل الأخلاق منشأها ديني، أم هي نتاج تطور الحضارة الإنسانية ؟ في المجتمعات التي تهيمن عليها الثقافة الدينية يتم تربية النشء الجديد على مفهوم العيب والحرام، وليس على مفهوم الصح والخطأ، وبالتالي فإن الفرد سيعتبر أن العيب هو ما يراه الآخرون وينتقدونه، وبالتالي لن يقيّم الفرد تصرفاته على قاعدة القناعة بأن هذا التصرف خطأ ويجب أن أمتنع عنه بغض النظر عن وجود أي رقابة مجتمعية أو حكومية، وعليه أن يحاكم نفسه من تلقاء نفسه، فما يجري على أرض الواقع ومنذ زمن طويل أن الفرد يتصرف كما يحلو له وكما تتطلب غرائزه البدائية بمجرد أن يكون بمفرده، ثم يتصرف على نحو مختلف أمام الآخرين، أي بشخصية مزدوجة.

الحضارة ليست مجرد أبراج وبنايات وقوّة عسكرية وتطور تكنولوجي. الحضارة في الأساس هي السلوك الإنساني, هي التضامن المجتمعي. هي أخلاق الناس التي يتكشف معدنها في المخاطر والأزمات، وعندما تمتحن الأوطان، إعصار أمريكا بيّن أن القوّة ليست كل شيء، وأنها لا تنفع في معظم الأحوال. الفوضى التي حدثت في مصر وغيرها إبان الثورة بينت أن الشعارات والمواعظ التي يحفظها كل أفراد المجتمع لا تفيد ساعة الحقيقة.

في الولايات المتحدة تعوّد المواطنون على الانضباط وفق نظام الدولة شريطة أن تظل أدوات ومظاهر الدولة قائمة وموجودة، ولهذا عندما تغيب أدوات النظام كدوريات الشرطة وكاميرات المراقبة أو عندما تنقطع الكهرباء تدبّ الفوضى وتبدأ عمليات الدهماء والسلب والاغتصاب .. بينما في أوروبا وخاصة في دول الشمال نجد الوضع أفضل بكثير، لأن التربية هناك مختلفة، وتطالب الفرد بالرقابة الذاتية، فلا ضرورة أن يكون هناك دورية شرطة في كل شارع حتى يشعر الناس بالأمان.

أما اليابان فتظل تمثل الحالة الأفضل والأرقى، علما بأن اليابان لا تمتلك جيشا، وشرطتها مزودة بأسلحة خفيفة وتكاد لا تراها إلا في نطاق تنظيم حركة السير، والمجتمع بشكل عام لاديني ولا يحتوي أحزاب أيديولوجية، ولكن النظام في هذا البلد الصناعي المتطور لا تجد له مثيلا في مكان آخر، وربما أجازف بالقول بأن اليابانيين هم أكثر من يطبق الأخلاق الحقيقية، فتحية لهذا الشعب العظيم الذي ما زال يقدم دروسا للبشرية في التقدم والتطور والحضارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق