أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 04، 2022

دمشق

في مشهد غرائبي يختزل الحالة السورية الآن؛ عند باب شرقي، وهي من بوابات دمشق القديمة، وأحد أحيائها الجميلة، المعطرة بالياسمين.. كافتيريا امتدت طاولاتها حتى آخر الرصيف، تقيم حفلا غنائيا صاخبا، ومئات الشباب والصبايا يرتدون ثيابا عصرية للغاية، يتراقصون طرباً على أنغام "الدي جي".. كانت الحفلة بلا مناسبة، وفي منتصف الأسبوع، غادرنا بعد منتصف الليل وما زالت في أوجها.. ما حيرني اختيار الأغنيات: صباح فخري، فيروز، أليسا، هيفاء، حمو بيكا، هاني شاكر، مسيطرة، الغزالة رايقة، طبطبة، السيكسي ليدي، يا بشار، وين عَ رام الله، علّي الكوفية، مرسيل خليفة...

قبالة الحفلة تماما كنيسة قديمة، وعلى بعد نحو مائة متر جامع كبير.. وبينهما عشرات المحلات العامرة بالزبائن، والمحلات المقفلة التي لم يستطع أصحابها توفير مولدة كهرباء.. تمشيتُ في أزقة الشام القديمة، لم يصادفني أي من نجوم باب الحارة، رأيت عامل نظافة، يبدو سبعينيا، كان يسند ظهره إلى الحائط، ممسكا بمكنسته، متكأً عليها، وأمامه برميل أسود متوسط الحجم، يغالبه النعاس، وقد هده التعب.. لم يكن يمد يده لعابري الطريق.. لكن كثيرين أشفقوا عليه، ومنهم رواد الحفلة.. وكثيرون مروا عليه بلا أي اكتراث.. يبدو أن المشهد صار عاديا..

دمشق مليئة بالحدائق الخضراء، وبمجرد غروب الشمس تخرج العائلات بالآلاف، وتفترش العشب، بحثا عن نسمة طرية، أو الاستفادة من ضوء المصابيح.. يظلون فيها حتى الفجر، يعودون لبيوتهم على أمل النوم فورا، وتجنب الأرق المعذب بالحر والعتمة..

الكهرباء تتوفر ساعتين في اليوم، والحر طوال الوقت.. تتوزع الكهرباء على الأحياء بالتتابع، فيبدو المشهد من علو سرياليا، بين النور والعتمة، معظم الأحياء والشوارع نظيفة بشكل لافت، بعض الأحياء الشعبية تبدو خارج العصر، بعض الأحياء الجنوبية (ومنها مخيم اليرموك العزيز) تدمرت كليا في الحرب، وصارت مدن أشباح مخيفة ومقفلة.. الأمن مستتب كليا منذ ثلاث سنوات، ولم يعد يؤرق الناس، ما يؤرقهم التضخم، والغلاء والفقر.. في وقت اشتداد الأزمة كان الوضع الاقتصادي أفضل، وقيمة الليرة أقوى بعشر مرات.. في زمن الكورونا، ومع تداعيات الحصار وانقطاع الكهرباء تدهور الاقتصاد بشكل مرعب.

جميع المطاعم من أغلاها حتى أرخصها مكتظة بالزبائن.. سوق الحميدية درة الشام الأجمل، ما زال متألقا يعج بالمارة والمتسوقين، ستجد فيه ما تشتهي الأنفس، وكل ما يخطر ببالك، وما لم تسمع به من قبل.. بوظة بكداش، كوكتيل أبو عبده، حلاوة الجبن، عصير التوت الشامي، اللوز والجوز والبقلاوة والكبة وفتة الحمص.. التذكارات والتحف الشرقية المصنوعة باليد وبعناية فائقة.. الأقواس الحجرية، والأزقة المتشعبة في شتى الاتجاهات، والبيوت العتيقة، ونوافير الماء، والجامع الأموي، وضريح صلاح الدين..

لا تعاني دمشق من الأزمات المرورية الخانقة، مقارنة بالمدن الكبيرة التي بحجمها، والسبب سياسة تقنين البنزين، ولكنها تسهر حتى قبيل الفجر، وتظل الشوارع مكتظة بالمشاة، والملفت اختفاء ظاهرة التحرش بالنساء، حتى اللواتي يرتدين ثيابا مثيرة.. واختفاء ظاهرة سائقي التاكسي الذين يعطون ركابهم محاضرات في الأخلاق وفي ملابس النساء..

تشرب دمشق من بردى، ومن عيون جبل قاصيون المطل على بهاء المدينة بكل شموخ، حيث ساحة الأمويين، والمرجة، والسبع بحرات، والسيف الدمشقي، وباب توما، ودمر، وكفر سوسة، وركن الدين..

رواتب الموظفين والعسكريين بائسة، لا تتجاوز الخمسين دولارا.. لكن السوري الذي طحنته الحياة، واختبر كل أنواع المحن يعرف كيف يتدبر أمره.. وما زال محباً للحياة. العائلة كلها تشتغل، ومن لم يجد عملا يساعد في الوقوف على طوابير الخبز، والغاز.. 

التفاوت الطبقي مرعب، من الغنى الفاحش، حتى الذين ينامون على الرصيف.. ومع ذلك ما زالت الشام تنتج الثقافة والفن والفكر والأدب.. ورغم كل هذا البؤس، وبعد سنوات الحرب المخيفة، لم يفقد السوريون مرحهم، وحلاوة لسانهم، ولطف معشرهم.. وتمسكهم بالأمل..

دمشق من أقدم المدن في العالم التي ما زالت عامرة بالسكان، ليست مزخرفة، ولا تحب البهرجة، ولا تسعَ لتحطيم الأرقام القياسية في البنايات والجسور والأنفاق.. عراقتها أصيلة، وهذا سر جمالها.. تبدو مثل سيدة أنيقة وقورة تناضل للحفاظ على شبابها ونضارتها.. تتعالى على جراحها بصمت وكبرياء..

تطالع وجوه الناس بحيرة ممزوجة بين الحزن والفرح.. تفرح لمن نجا من أهوال الحرب، ولمن بقي محافظا على طيبته وابتسامته.. وتحزن وأنت ترى دمعة مختبئة محمّلة بالأسى.. يريد صاحبها أن يبوح لك بأوجاعه: ابني مفقود من خمس سنين، أمي لازمها عملية في الركبة، أبي لا ينام من أوجاع الديسك، جيراننا نازحين من الغوطة وما عندهم أكل، ابن عمي فقد رجله اليمين من لغم، وابن خالتي رسب في الجامعة متعمدا حتى يؤجل الخدمة العسكرية، وأنا بفكر في الهجرة ولكني خايف أغرق في البحر، كل أرباحي المفترضة أدفعها للجنود على الحواجز، وإذا ما دفعنالهم بموتوا من الجوع.. كلنا ضحايا حرب مجنونة..

الشام "أفلتت من الصيدة" (بحسب تعبير لوزير مولت دولته الحرب على سورية)، وقد خاب مسعاه، وخاب ظن ُّكل من راهن على سقوطها.. وستبقى عصية على الكسر..

هذه مجرد ملاحظات عامة من زيارة قصيرة لدمشق..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق