أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 11، 2022

رواية الثالث

صدرت رواية "الثالث" للروائي الإسرائيلي "يشاي سريد" عام 2015، ومؤخرا قام بترجمتها عن العبرية هشام نفاع، وأصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار 2022، مع تعقيب للمختص في الشأن الإسرائيلي"أنطوان شلحت". تقع الرواية في 226 صفحة.

تنتمي الرواية إلى "أدب النهايات"، أو أدب الخيال والرعب، أو أدب المدينة الفاسدة والديستوبيا.. وتدور أحداثها في زمن مستقبلي مُتخيّل، بعد أن تتعرض تل أبيب لقنبلة ذرية تبخّر سكانها، وتحيل مدن الساحل إلى خراب.. ليأتي شخص يعيش في النقب اعتاد ممارسة هوايته في مراقبة النجوم ويتمكن من إعادة توحيد من تبقى من اليهود حوله، وتأسيس مملكة يهودا الجديدة في الجبال (في إشارة إلى مناطق الضفة الغربية) وعاصمتها أورشليم، وطرد الفلسطينيين منها (الذين يسميهم العماليق)، ثم استعادة "تابوت العهد"، وإقامة الهيكل الثالث (يسمي هذه المرحلة حرب الخلاص).

هذه المملكة عبارة عن دولة دينية يهودية خالصة (ثيوقراطية)، متفرغة تماما لعبادة الرب، وتطبيق الشريعة، وأحكام التوراة.. يحكمها ملك مستبد، تشبه تماما الممالك الدينية التاريخية القديمة، التي شاهدنا مثلها في الأفلام السينمائية وكتب التاريخ، حيث نظامها وراثي أوتوقراطي، وحاكمها مطلق الصلاحيات، وتمارس طقوسا دينية شكلانية كتلك التي مارستها الديانات الأيقونية والوثنية القديمة، والتي تتركز حول المعبد والمذبح، وتقديم القرابين والأضحيات والتقيد بالشعائر.

تصور الرواية هذه المملكة على أنها ديستوبيا (الجحيم، والمكان الذي لا يصلح للعيش)، بطل الرواية الملك "يوعاز"، وهو شخص كان مرتدا عن الدين، لكنه سيستخدم الدين في حربة لاستعادة حكم اليهود، فتعيده لحظة تجلي إلهية أثناء إقامته في النقب إلى دين أجداده، وينجح في توحيد صفوف من تبقى من شعبه حوله، تدوم مملكته قرابة 25 سنة، لكنها تتعرض لحصار وعزلة دولية، وتتحوّل حياة سكانها إلى بؤس وشقاء وفقر، ويقودهم ملكهم في نهاية المطاف إلى هزيمة مذلة، بعد أن يخوض حربا ضد العرب والفلسطينيين، ينتج عنها خراب الهيكل الثالث.

تأتي الرواية على لسان "يونتان"، وهو ابن الملك.. يكتبها على شكل مذكرات أثناء مكوثه في الأسر حيث يسمح له الفلسطينيون بكتابة شهادته على تلك الحقبة، قبل أن يسوقوه إلى الإعدام.

الرواية مليئة بالترميز.. فمثلا يونتان، وهو آخر من بقي من أبناء الملك يتعرض في طفولته لحادث تفجير ضمن محاولة من العماليق لاغتيال الملك، ينجو من الانفجار لكنه سيعاني من إعاقة في رجله، ويفقد فحولته.. (هل كانت تلك إشارة من الكاتب إلى النهاية المحتمة للدولة الدينية اليهودية؟).

يوكل الملك لابنه يونتان مهمة إدارة المعبد المقدس، فهو لا يصلح للحرب، ولا لشيء آخر في مجتمع عسكرتاري ذكوري، ولا حتى للزواج، مع أن تعاليم التوراة تحرم على المعاق والمخصي (والنساء) دخول المقدس، هذا الأمر يجعل يونتان ممتنا لأبيه الذي أوكل إليه هذا المنصب الرفيع، وفي الوقت ذاته سيعيش أزمة نفسية حادة، وإحساسا عميقا بالذنب لأنه خدع الإله يهوه.. وبهذا الإحساس المركب يعيش يونتان طيلة عمره مغيبا عقله تماما، ومنقادا كليا للمقدس، مقتنعا بكل خرافات الدين، ومخلصا للملك حتى آخر لحظة.. (وهذه سمات المجتمعات الدينية العسكرتارية المغيبة عن الواقع، والمنفصلة عن العصر، المخدرة عقول أفردها  كليا، والمنقادين للسلطة بولاء مطلق، مع انصياع صارم لسطوة المعتقد والغيبيات).

يصف لنا "يونتان" العلاقة الزائفة بين السنهدرين (المجمع الديني الذي يتولى القضاء وتطبيق الشريعة) والكهنوت والملك وأفراد أسرته، مثلاً: تزوج والده من زوجة ثانية، بينما والدته تقفل على نفسها منزلها بعد هجر زوجها لها، يصف علاقة الملك المشبوهة بأحد الأثرياء، ومخالفته الشريعة لإرضائه، ويروي خداع والده ووزير حربه الجمهور حين زعما بتمثيلية تلفزيونية أنهما ظهرا في المعركة لدعم معنويات الجنود، وهنا يصدمه شقيقه "يوئيل" بحقيقة الأمر، قائلاً: "هذا الشعب الجاهل يشتري كل حكاياتهم الخرافية، أنا لم أعد أصدّق الوالد، وقد حان الوقت لأن تنضج وتكبر أنت أيضاً".. لكن "يونتان" يجيبه بعناد: "أنا أؤمن بعمق أنَّ الرب أرسل والدنا ليقودنا نحو الخلاص، وأنَّ ما تقوله كفر وتدنيس لاسم الرب، وستجلب علينا كارثة".

 يكتشف أنّ شقيقه ديفيد (وزير الدفاع) لم يكن مقاتلا بارعًا، بل هرب من البلاد حين اسشتعر بدنو الهزيمة، ويصف العمل في المعبد بأنه ممل ودون جدوى، ويتحدث عن الفقراء الذين يقتطعون من حصة أطفالهم ويقدمون القرابين للمعبد، بينما طبقة الكهنوت يلتهمونها بنهم، ولا يشبعون.. وهنا ينزع الكاتب على لسان "يونتان" القداسة عن "المقدس" وبلا مواربة، فالذبائح تدنس المعبد بروثها وبولها، كما أن سدنته يغضون الطرف عن التعاليم التوراتية المشددة مقابل المال والامتيازات، ورشوة الأثرياء..

وحسب المعتقد الشائع للمجتمع الأورشليمي فإن القنبلة الذرية التي دكت تل أبيب كانت عقابا من الرب لسكانها اليهود الآثمين، لأنهم تخلوا عن التوارة والشريعة، وعاشوا حياة علمانية بلا دين ولا أخلاق.. لذلك، لم تُقِم مملكة يهودا أي نصب تذكاري لهم، بل ظلت تعتبرهم هم الذين جلبوا الدمار لإسرائيل.

يأتي المشهد الأخير مروعا، ومرمزا.. في يوم الغفران، وهو آخر يوم في حياة مملكة يهودا، كان الفلسطينيون على أبواب العاصمة، ويدكوها بالقذائف.. يلقي الملك خطابا عاطفيا، ثم يأمر بإطلاق رشقة من الصواريخ النووية على المدن العربية البعيدة، ولكن هذا لا يغير شيئا، وفي خطوة أخيرة يائسة، يأمر الكهنوت الملك بأن يضحي بابنه الصغير قربانا للمذبح، لعل "يهوه" ينقذهم من نهايتهم البائسة. وهنا إشارة إلى حالة الهيجان الجمعي بعد أن يتملك السكان الخوف واليأس، فيفقدون بصيرتهم وإنسانيتهم، ويعتقدون أن ذبح الرضيع هو فقط ما يسكن غضب الرب، ويدفعه للتصرف لإنقاذ شعبه المختار! لكن "يونتان" يرفض ذلك، ثم يهجم على والده الذي كان يحمل صغيره بيدٍ والسكّينة باليد الأخرى ويهم بذبحه، ويقوم بطعن والده وقتله، ثم يهرب مع شقيقه الصغير، ليقع في الأسر، وهناك يخصص الفلسطينيون مرضعة للطفل..

تظهر الرواية حدية الصراع على هوية الدولة والمجتمع، خاصة بين العلمانيين (تل أبيب/ الساحل) والمتدينين (القدس/ الجبل)، والمفارقة أنّ كلتيهما تنتهيان بالدمار والخراب.. هل أراد الكاتب القول بأن نهاية إسرائيل محتمة وفاجعة مهما كانت هويتها، لأنها مشروع استعماري بحت؟ أم أراد تسليط الضوء على خطر تحول إسرائيل إلى دولة دينية يحكمها اليمين المتطرف؟ ربما الخيار الثاني ما أراده الكاتب، خاصة وأن حضور الفلسطينيين في الرواية شبحي ومتواري.

وفي مشهد آخر يصف محاكمة السنهدرين لزعيم العلمانيين "سوركيس"، الذي يُحاكم بتهمة الخيانة (العلمانية تصبح خيانة)، والذي يقول رغم تعرضه للسجن والتعذيب: "ملعون هذا الملك المستبد الذي توجتموه عليكم، وملعون  "يهوه" ربكم قاسي القلب، أنظروا إلى البلاد، إلى الفقر، والبؤس، والمدن المتهاوية، وإلى كل الدم الذي سفكتموه".. وفي النهاية يتم إعدامه أمام الجمهور. (في إشارة ضمنية إلى مصير اليسار والعلمانية في المجتمع الإسرائيلي).

المؤلف "يشاي سريد"، ابن "يوسي سريد"، الوزير السابق وعضو الكنيست، ومن زعماء حزبي العمل وميرتس، وأحد رموز ما يسمى "اليسار الإسرائيلي". لذا يمكن فهم الرواية على أنها تحذير قاسي وواضح لمآلات إسرائيل المحتمة، إذا ما استمرت في سياسة التهود والتدين واليمينية والتطرف.. فهي تعبر بوضوح كبير المخاوف العميقة والرهيبة الكامنة في العقل العلماني الإسرائيلي، الذي مثله مجتمع تل أبيب، تجاه تغوّل الدين والاستيطان والتطرف في المجتمع والدولة والجيش، وتحوله إلى فاعل مؤثر وقوي، بحيث يرتد في النهاية على صانعيه، وتوضح الرواية كيف يتحوّل الدين والتدين المتطرف وتهويد الوعي والحياة إلى حاضنة للفساد والتضليل والقتل والمقامرة بوجود إسرائيل.

لا يسلط الكاتب الضوء على مخاوف العلمانيين من مصير "إسرائيل" المستقبلي وحسب، بل ويستشعر خطورة البنى التحتية الحالية والتي تمهد لتحويل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية (قانون القومية اليهودية مثالا)، يطلق عليه تعبير "الهيكل الثالث"، مستخدما لغة التوراة بعباراتها الدينية، بدءًا من العهد القديم فالمشناه والتلمود وكتاب التسابيح والصلوات، وبالهوس العرقي والتعصب والعنصرية، من أجل تأكيد طبيعة هذه البنى الظلامية وقدرتها على التدمير. فهو في الوقت الذي يرسم فيه صورة ديستوبية مرعبة للكابوس القادم، يرسم أيضا ما هو قائم في إسرائيل الآن.

وبحسب "أنطوان شلحت" فإن "ساريد" ليس أول من كتب في الديستوبيا الإسرائيلية، فقد سبقه "عاموس كينان" في روايته "الطريق إلى عين حارود" في مستهل الثمانينيات، وتبعه آخرون، معظمهم من خلفية يسارية، ودافعهم الرئيس خشيتهم مما يمكن أن يكون عليه مصير إسرائيل طالما أن اليمين والتدين يتغولان في المجتمع، وذلك عبر أعمال روائية برؤية سوداوية تحمل نذير سوء.

 أسلوب الكاتب سلس ومهني وشيق، يسير بأحداث الرواية بوتيرة متناسقة، والترجمة رائعة ومتمكنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق