أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 27، 2022

تصور عام لطبيعة الدولة الدينية

 

تنادي العديد من الحركات الإسلامية (وبشكل خاص حزب التحرير) بعودة الخلافة وإقامة دولة إسلامية..

لن أناقش هنا إذا كان إقامة "الدولة الإسلامية" فرض شرعي، أم اجتهاد فقهاء، أم مطلب سياسي لأحزاب تسعى للظفر بالسلطة؛ فالمسألة من داخل المؤسسة الدينية نفسها غير محسومة، وهناك العديد من المفكرين الإسلاميين (منهم مستقلون، ومنهم منتمون لأحزاب إسلامية) اعتبروا أن إقامة "دولة إسلامية" ليس فرضا شرعيا.. ما يهمنا هنا تخيل شكل وطبيعة الحياة في ظل هذه الدولة، في حال إقامتها.

بحسب مفاهيم علم الاجتماع السياسي، فإن مصطلح "دولة إسلامية" يعني دولة دينية، يحكمها رجال الدين، على أساس ديني، وفقاً لأيديولوجية الحزب الحاكم..

وتدل التجارب التاريخية مع "الدولة الدينية" أنها كانت دوما تتحول إلى ثيوقراطية؛ الخليفة، أو الإمبراطور، يستمد سلطته من الله، فيصبح في القانون، وفي الوعي الجمعي ممثلا لله، وبالتالي يحوز على القداسة، فتحرم مخالفته، أو الاعتراض عليه، خاصة وأنه سيظل في منصبه طيلة حياته.. والحكومة التي يمثلها الحزب الحاكم ستحوز أيضا على القداسة، وتصبح مخالفتها عصيانا لله.. مع أن أدبيات الإسلام السياسي تقر بمشروعية ووجوب مخالفة الخليفة (والحكومة) إذا خالف ما هو معلوم من الدين، أو أظهر معصية علانية..

وهذه الدولة قد تتحول إلى نظام طائفي، ذلك لأن الخليفة حسب المفهوم الإسلامي صاحب سلطتين زمنية وروحية؛ وبالتالي فإن طاعته واجبة وملزمة على جميع رعايا الدولة. والسلطتان الزمنية والروحية، عابرتان للحدود والقوميات، فهما فوق القومية، وفوق الطائفة. وهذا الأمر ينطوي على إشكالية معقدة تحتاج إلى حلول مبتكرة وجذرية، سيما وأنها لم تكن مألوفة في عهد الخلافة السابقة، أي في مرحلة ما قبل القومية والدولة الحديثة. وهذه الإشكالية تتلخص في إخضاع المسلمين ممن هم من غير طائفة الخليفة، والذي بالضرورة سيكون سنيا إذا استلم الحكم حزباً سنياً، وشيعياً إذا استلم الحكم حزباً شيعياً.. وتجارب المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن تعطينا فكرة واضحة عن صعوبة ذلك (بل واستحالته)، خاصة في ظل أجواء الشحن الطائفي، والخلاف القائم بين السنة والشيعة، فضلا عن إشكالية إخضاع غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى.

ومن ناحية ثانية فإن أدبيات حركات الإسلام السياسي قد تقبل التعايش مع المسيحيين واليهود باعتبارهم أهل كتاب، ولكن هذه النظرة تختلف مع الطوائف الأخرى من سكان دولة الخلافة، مثل البهائيين، الدروز، العلويين، اليزيديين.. إلخ، فالأحزاب الإسلامية تتعامل مع هذه الطوائف على أنهم خارجين عن الدين..

وعندما تكون الدولة دينية، فإن العلاقات الاجتماعية بين الناس ستنتظم على أساس ديني، أي سينشأ عنها مجتمع ديني؛ يعتمد على وجود التشكيلات الاجتماعية الإرثية التي لا يملك فيها الفرد إمكانية الإختيار، حيث يكون انتماؤه للدين، أو عضويته للطائفة إجبارية (وراثية)، فمن الناحية الموضوعية لا يوجد مؤمن لا ينتمي لطائفة، حتى لو لم يكن ذو فكر طائفي.

ووجود المشاعر الدينية ومشاعر القربى التي تجمع أبناء الطائفة لا تؤدي حتما إلى نشوء الطائفية بصورتها السلبية، بل ربما تجد تلك الطوائف أسلوبا ما للتعايش السلمي فيما بينها، لكن سيادة النزعة الدينية والتعصب ستوفر البيئة الخصبة لإنتاج الفكر الطائفي، فيضعف هذا التعايش، وتنشأ بدلا منه الطائفية؛ كما يحدث عندما تنكفيء طائفة على ذاتها بسبب شعورها بالتهديد، أو عندما تستأثر إحدى الطوائف القوية على مقدرات الدولة، أو عندما يبدأ أصحاب المصالح باستثارة المشاعر الطائفية.

ودستور الدولة الإسلامية (كما اقترحه حزب التحرير) ضَمِنَ حق الجميع في العبادة، وممارسة طقوسهم بحرية (مقيدة)، وضَمِنَ حقوقهم المدنية، ومعاملتهم أمام القضاء بعدل ودون تمييز. ويمكن القول أن هذه النظرة تنطبق أيضا على بقية الطوائف والأقليات، فمثلا جاء في مشروع دستور الدولة الإسلامية حسب حزب التحرير: لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك. (المادة 6).

ولكن، حتى لو ضَمنت الدولة أمنهم وممتلكاتهم إلا أنها لا تعطيهم نفس الحقوق الممنوحة لعموم المسلمين، وللتوضيح نورد بعض المواد من دستور الدولة الإسلامية، الذي يؤكد على عدم المساواة بين المسلمين وبقية الطوائف في بعض القضايا، مثلا لا يحق لغير المسلمين الترشح لمنصب الخليفة، ولا حتى الحق في انتخابه. (المادة 26).  ولا يحق لغير المسلمين تولي القضاء؛ (المادة 76)، ومع أنه سمح لغير المسلمين الترشح لمجلس الأمة، إلا أنه قيد صلاحياتهم وواجباتهم خلافا للمسلمين، وجعلها مقتصرة على إظهار الشكوى من ظلم الحكام، أو من إساءة تطبيق الإسلام. (المادة 107). كما فرض دفع الجزية على مواطني الدولة من أهل الكتاب. (المادة 144). كما ميز الدستور بين المسلمين وسواهم في مجال دفع الضريبة؛ فألزمها على المسلمين، وأعفى غيرهم منها. (المادة 146). وكذلك في دفع الزكاة والانتفاع منها. (المادة 143). فضلا عن التمييز بين المسلم والذمي في مسائل الدية، والعقوبات، وأنه لا يجوز قتل مسلم بدم ذمي.

صحيح أن القيم الإسلامية تحث على التسامح، والتسامح كقيمة أخلاقية بين الأفراد شيء جيد وإيجابي، لكن الدولة لا يجب أن تتعامل مع مواطنيها بمنطق التسامح، بل على أساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بقانون المواطَنة. والتسامح يعني تساهل الأغلبية القوية تجاة الأقلية الضعيفة، فتسمح لها بالعيش، والتحرك، والعبادة.. كمنحة وكرم من قبل الأكثرية تجاه الأقليات.. وليس كحق طبيعي مكفول بالقانون.. والتسامح يكون مع المخطئ والمقصّر، وليس مع المواطن الطبيعي..

وتخبرنا تجارب التاريخ أن الدولة الدينية تتحول تلقائيا إلى دولة مستبدة، أي دولة تقودها منظومة أمنية، ستُخضع بالقوة كل من هم خارج طائفة الحزب الحاكم، وستسعى إلى فرض نمط حياة واحد وموحد على كل المجتمع، وستضرب بقوة كل من يخرج عن "الإجماع".. وهنا لا يوجد تعددية فكرية، ولا رأي مخالف، ولا معارضة، ولا انتخابات، ولا أحزاب، ولا نقابات، حتى الحريات الشخصية مقيدة بمنظومة فقهية تعود للقرن الثاني الهجري..

هذا ما حدث فعليا في الدولة الأموية، والعباسية، والفاطمية، والعثمانية.. فلماذا سنفترض أن دولة الخلافة المنشودة ستكون مختلفة عن تجارب 1400 سنة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق