أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 25، 2019

صور متخيلة


بعد عودتي لأرض الوطن، تغيرت نظرتي لكثير من المعاني والمفاهيم (لا مجال لذكرها هنا)، وهذا التغير صار بفعل اللقاء المباشر مع الواقع والحقيقة.. وبفعل الزمن، وما تنضجه السنون.. مما تغير، وأود تسليط الضوء عليه هنا: مفهومي الوطن، والشهادة..

في المنفى، تتكون في أذهاننا صورة متخيلة للوطن، في الغالب تكون صورة مثالية، بأبهى ألوانها وأفخم معانيها.. صورة صنعتها الأشواق وشكّلها الحنين.. كنتُ أظن أنه بمجرد أن تطأ قدمي أرض الوطن، سأقبّل تربته.. لكن ذلك لم يحصل؛ فما أن أنهيتُ معاملات دخول الجسر، ونزلتُ من الحافلة.. نظرتُ للأرض؛ فوجدتها ساحة معبدة بالإسفلت، مثل أي شارع آخر.. مع الوقت تأكدت إنني لن أقابل شيئا ما، أو كائن حي اسمه الوطن.. صرت أكتشف أن هذا الوطن يشبه كل البلدان؛ فيه محلات تجارية فاخرة، وأخرى متواضعة، وأرصفة نظيفة، وأخرى محفّـرة، وسيارات مرسيدس وهونداي، وحقول بامية وحدائق، ومعامل طوب.. وهذا الوطن ليس كله خَضارٌ مدهش، كما هو في الصور، فيه مناطق جرداء، ومزابل، ومطبات.. الشمس ساعة الغروب تشبه الشمس في كل البلاد التي زرتها؛ تراها وتحس بجمالها حسب حالتك النفسية..
الناس هنا (وهم في مخيلتي الشعب الفلسطيني الصامد والبطل..) مثل الناس الآخرين؛ عاديين جداً، منهم الشجعان والأبطال والمضحّين بأرواحهم، ومنهم المتخاذلين والعملاء والمتفرجين.. صحيح أن الفلسطينيين بمعنى ما مختلفون بعض الشيء، بسبب الاحتلال، والتشرد، ونتيجة تاريخ طويل من الثورات والانتفاضات.. وأنهم قدّموا للعالم صورا ونماذج فريدة ليس فقط في الفداء والبطولة، بل وفي شتى المجالات الإنسانية والإبداعية.. ومع ذلك، هم شعب طبيعي، لا ينفرد بجينات خارقة..

في صغري، كنت أظن أن الفدائي بطل استثنائي، وأنّ بوسعه هزيمة "بروسلي"، وأنّ أخلاقه ملائكية.. ثم اكتشفت أنه يصاب بالزكام في الشتاء، وينعس في الليل، ويجوع ويتعب، وله سقطات مسلكية مثل سائر بني البشر.. وكنت أعتقد أن الشهيد كائن خرافي، حتى قبيل استشهاده، لم يكن إنسانا عادياً، وأنّ الله اختاره لصفات خاصة يتحلى بها، وأنّ علامات الشهادة تظهر عليه قبل وقت من استشهاده.. ولـمّـا استشهد بعض أصدقائي، وعايشت كثيرين قبل استشهادهم، أدركتُ بأن الشهداء كانوا حتى آخر لحظة في حياتهم أناسا عاديين، يشبهوننا كثيرا؛ بعضهم كان يمشي في السوق متأبطا ربطة خبز، وبعضهم كان في نزهة مع الأصدقاء، وآخرين كانوا في طريق عودتهم للبيت، وكانوا سيشاهدون في المساء حلقة جديدة من برنامجهم المفضل.. 

لماذا أكتب هذه الاستنتاجات العادية؟!

في عصرنا الراهن، اشتد التنافس على اجتذاب القارئ والمشاهد؛ فصار هدف التلفزيون، وقناة اليوتيوب، وناشر الفيديو، وكاتب المقال، ومذيع الخبر... صار هدفهم الأول استقطاب القراء والمشاهدين، وزيادة عدد "اللايكات".. بغض النظر عن محتوى ومضمون وشعبوية ما يكتبونه وما ينشرونه.. وللأسف، كان الشعب الفلسطيني من ضحايا هذا التنافس..

في سياق هذا التنافس، صار المتنافسون ينتظرون أية فرصة، ليجعلوا منها مادة ممتازة لجذب الانتباه.. بنوا تصوراتهم غير العادية عن الشعب الفلسطيني، وعن الوطن، وعن الضحايا.. مقالات فيها كل المحسنات البلاغية، وقصائد تمجيد، وصور فوتوغرافية بكل تقنيات الفوتوشوب، إذا لزم الأمر، حتى لو كانت لجثة شهيد، أو خبرا لم يتحقق منه أحد، أو تعليقا يستند إلى تحليلات متسرعة وجوفاء.. المهم ان نكتب ونعلق وننشر بكل استخفاف.. أن نتغنى بالبطولات، ونخلق الأبطال، وننسج عنهم الأساطير..

إذا كان من استشهد طالب مدرسة، ننشر صورته وهو يمتشق سلاحاً رشاشاً!! ثم نفتح صفحته على فيسبوك، ونختار بعض العبارات التي كتبها، لتصبح قمة الحكمة.. ومن المستحيل أن ننشر له صورة وهو يلعب بالكرة، أو يتناول البوظة! فهذا شهيد، ولا يليق به إلا عبارات الغضب والانتقام.. ثم ننتقل إلى أمه، نبارك لها فقدانها ابنها، ونطالبها بأن تزغرد، وأن تعلن عن فرحها بأنها صارت "أم الشهيد".. وأيضا، ما ستقوله الأم الثكلى في تلك اللحظات المرتبكة سيصبح قمة الحكمة، وستصير أنموذجا للمرأة الفلسطينية البطلة، التي تقدم أبناءها فداء الوطن..

من الطبيعي أن ترى الأم ابنها الشهيد بوجه مشرق، يشع نورا، فهي تراه دوما بقلب الأم.. ومن الطبيعي أن تتذكر آخر كلماته وآخر تصرفاته "الاستثنائية"؛ فهي تريد أن تتذكر أجمل ما فيه، وما يعزيها.. ولكن، ماذا عن نشر صور الشهيد الذي ظل مبتسما وهو ميت؟! هل هو الوحيد الذي قُبلت شهادته؟ والوحيد الذي استبشر لقاء ربه؟ أم هي مجرد تخيلات وإسقاطات فكرية نزجّها في سياق الحدث غصباً؟

قبل أيام، في فعالية ثقافية كان المحامي محمد عليان حاضرا (والد الشهيد بهاء) فذكر بأن أكثر ما يغيظه ويربكه أن يقول له أحدهم "مبروك الشهادة".. لأن كلمة مبروك تعني أن نرد على قائلها "عقبال عندك".. وهو لا يتمنى لأحد أن يتجرع مرارة الفقد والحزن على ابنه، حتى لو بالشهادة..

صحيح أن آباء الشهداء وأمهاتهم يفاخرون بابنهم.. فهذا يمنحمهم العزاء، ويجعل لتضحيتهم معنى وقيمة.. وأنهم يظهرون أمام الإعلام أقوياء متماسكون.. وهذا جيد، ويعطي رسائل إيجابية، ويرفع المعنويات.. لكن من الخطأ أن نصدق بأنهم فرحون بخسارة ابنهم.. وأنهم فجأة تخلوا عن مشاعر الأبوة والأمومة.. هم أقوياء حقا، ولكنهم بشر.. تعتريهم مشاعر الفقد والحزن والضعف... لكننا لا نريد رؤيتها..

هذا لا يقلل من أهمية التضحية، ولا ينقِص من مكانة الوطن، ولا من مرتبة الشهداء وذويهم.. كل تلك المعاني محفوظة في الوجدان الشعبي.. ومن المهم أيضا إبراز الصورة، ونشر القصيدة، وكتابة المقال، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.. هذه كلها أدوات فعّالة للمقاومة.. المشكلة في إساءة استخدام تلك الأدوات، وفي التهويل والمبالغات غير الضرورية، وتحميل الشعب فوق طاقته، وفي دفع الناس للموت من أجل كتابة قصيدة.. وهدم منزل مقابل بيان حزبي، والأسوأ أن تستغَل صور الشهداء في المزوادات والمهاترات السياسية، وأن تستغل الأحزاب أحزان الناس ومشاعرهم لأغراضها الأيديولوجية والدعائية..

فلسطين وطننا وهذا سبب كافي لأن نحبها، وإسرائيل تحتل أرضنا وهذا سبب كافي لنحاربها.. ولا نحتاج لكل تلك الشعارات والأيديولوجيات..

والشهداء أكرم منا جميعا، نحبهم، كما نحب الحياة.. وهذا كل ما في الأمر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق