أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 18، 2019

لغتنا الجميلة


(1~2)
تُعد اللغة من الظواهر السلوكيّة الأقدم في تاريخ البشر، والتي ميزتهم عن سائر الكائنات، وتعرف بأنها نسقٌ من الرموز والإشارات، وأداة يعبّر بها الفرد عن مشاعر وأحاسيسه، وهي نظامٌ يحقّقُ وظيفة المعرفة، والتواصل، والتعبير، والتفاعل، والتفكير، والتخيل، والاستكشاف.. ولكل قوم وحضارة لغة خاصة.. وهي مرآة الفكر وأداته، وثمرة العقل ونتاجه، وهی معرض الثـقافات الإنسانیة وحضاراتها.
في الثامن عشر من كانون الأول 1973، قررت الجمعية العامة اعتبار اللغة العربية لغة رسمية للأمم المتحدة، إلى جانب خمس لغات أخرى (الإنجليزية، الفرنسية، الصينية، الروسية، الإسبانية)، وبذلك، صار هذا اليوم من كل عام، يوماً عالمياً للاحتفال باللغة العربية.

لا خلاف على أن العربية لغة عريقة، وجميلة، ومدهشة، وهي لغة القرآن، وبسبب ثرائها الفاحش بالكلمات، والمعاني، وقابليتها المرنة للاشتقاق، وخصائصها النحوية الفريدة.. تعتبر من بين أعذب اللغات وأخصبها للشعر والنثر والبيان الفصيح.. وللمدح والهجاء والغزل..
البعض ذهب بعيدا في تمجيد اللغة العربية وتعظيمها، فصارت "لغة راقية"، و"مقدسة"، و"لغة أهل الجنة"، و"أصل اللغات كلها"، و"أفضل وأعذب لغة".. وقبل أن نبحث إذا كانت تلك مجرد توصيفات أيديولوجية، وسياسية، قد تصل أحيانا حدود العنصرية والشوفينية.. لنبحث أولا إذا كانت تلك التوصيفات دقيقة، وصحيحة علميا وتاريخيا..
تقريبا، لا أحد ممن بالغوا في تمجيد العربية اطلع على اللغات الأخرى,, فمن يدري، قد تكون الصينية أو الهندية أرق للغزل، وقد تكون الفارسية أخصب للشعر، وقد تكون الألمانية أنسب للفلسفة، وقد تكون الفرنسية أصلح للعلوم.. فكل لغة بعين أهلها هي الأجمل والأفضل.. وإذا فاضلنا بين اللغات، فإلي أي المعايير سنحتكم؟ ومن ذا الذي سيقرر؟ وعلى أي أساس سنبني حكمنا؟
في العالم حاليا، لدينا نحو خمسة آلاف لغة، يمكن اختزالها إلى عشرين مجموعة لغوية.. وبحسب النظرية السائدة، فإن كل مجموعة لغوية واحدة انحدرت من لغة واحدة هي الأقدم.. ولكن، هل هذه الفرضية صحيحة؟ أي هل جميع اللغات تعود إلى سلف واحد مشترك؟
يزعم البعض أن اللغة السامية هي الأصل الذي انبثقت عنه بقية اللغات.. ويزعم آخرون الآرية المفقودة (الهندوأوروبية) هي أصل اللغات.. وهناك فرضيات أخرى تقول إن اللغة الأم هي السريانية، أو العربية.. وبما أن اللغة الأم يجب أن تكون لأقدم الحضارات، يرى البعض أنّ البابلية أو السومرية هي اللغة الأم للبشرية..
بحسب علماء البيولوجي والأنثروبولوجي، فإن أصل الإنسان بدأ من إفريقيا، قبل نحو 200 ألف سنة، وهؤلاء  البشر لم يغادروا إفريقيا إلا قبل نحو مائة ألف سنة، بعد أن عبروا باب المندب (وفي رواية أخرى من سيناء إلى فلسطين) ومن هناك انتشروا في ربوع الأرض.. وإذا اعتبرنا أن تطور اللغة وتشعباتها سارا جنبا إلى جنب مع التطور السكاني (بآليات مختلفة)، فهذا يعني أنّ كل مجموعة بشرية استقرت في موقع جغرافي امتلكت لغتها الخاصة، أي أن عددا من اللغات بدأت ونمت في مرحلة تاريخية واحدة في نفس الوقت.. وكل مجموعة سكانية انشقت عن المجموعة الأم، وتباعدت عنها في السكنى صار لها لهجتها الخاصة، ثم وبمرور الوقت، بدأت تلك اللهجات في التمايز تدريجيًّا حتى تحولت إلى لغات جديدة، لتتفرع عنها لهجات، وهكذا دواليك..خاصة وأنه لكل منطقة مكوناتها المختلفة، وهذا يتطلب إطلاق تسميات ومعاني جديدة على تلك المكونات.. وقد ترتبط اللغات الجديدة بعضها ببعض عبر الكلمات أو الأصوات أو البُنَى النحوية المشتركة.
وبحسب الآثار الأركيولوجية عثر العلماء على مسلات ونقوش بابلية وأشورية وسومرية تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، كما جدت سجلات مكتوبة باللغة الصينية ترجع إلى 3500 سنة ق. م. كما وجدت سجلات بالهيروغليفية المصرية ترجع إلى 2200 سنة ق.م. وهناك مخطوطات قمران باللغة العبرانية تعود إلى القرنين الأول والثاني قبل الميلاد، وثمة نقوش بالحميرية تعود إلى 800 سنة ق. م، ويؤكد علماء اللغة أن الآرامية تكونت نحو 800 سنة ق. م، والفينيقية نحو 700 سنة ق. م.. أما اللغة العربية فقد تكونت بدءا من القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد.. أي أنها الأحدث بين كل لغات المنطقة.. دون أن ننسى أصول اللغات الإفريقية واللاتينية والآسيوية، ولغات حضارات الأمريكتين، والأبورجينيز في أستراليا.. والتي تعود لآلاف السنين.
وبما أن اللغة العربية لغة العرب، فمن المستحيل الفصل بين كيفية نشوء العرب كأمة، وبين نشوء العربية كلغة.. تاريخيا، كانت النواة التي انبثقت عنها الأمة العربية قد تشكلت بداية في جزيرة العرب؛ قبائل متناثرة بدأت تمتزج مع حضارات اليمن.. ومع تعقد البنية الأنثروبولوجية في شبه الجزيرة، بدأ العرب يمتلكون الخصائص والسمات التي ميزتهم كأمة لها شخصيتها المنفردة، وتحديدا في القرون القليلة التي سبقت الإسلام.
قبل الإسلام لم يكن التاريخ قد لامس الجزيرة إلا قليلا، ولم تكن الحضارة في أبعادها الراقية قد اقتحمتها؛ فالحضارة مست الأطراف: في الجنوب (اليمن)، وفي الشرق (الحيرة)، وفي الشمال (ثمود، الأنباط، تدمر..) وكل هذا زال وانقضى في عصر النبي، وقبله بقليل (هشام جعيط).
في تلك الآونة بدأ يظهر نوع من الشعور القومي بين القبائل البدوية في الجزيرة، نتيجة التقائها في الأسواق، والتقاء مصالحها، ثم تقارب لغاتها المختلفة للتفاهم، حتى صارت تتفاهم بلغة العاصمة التجارية مكة، (أي لغة قريش)، فكان نمو وتطور الوعي الجمعي سببا في بزوغ شعور قومي دفع العرب حينها لاختيار أنفسهم شعباً واحداً، له لغة واحدة وأب واحد، هو يعرب بن عدنان. (سيد القمني).
قبل الإسلام بعدة قرون، أخذت إرهاصات ومقدمات نشوء العرب بالتبلور والنضوج، والتراكم، حتى غدت القبائل مهيأة لبناء إطارها المادي والجغرافي واستكمال عناصر توحدها. وفي الثلث الأخير من القرن السادس الميلادي كانت كافة الظروف تستدعي القادم الجديد، بل وتلح في طلبه وتستعجله، فكانت اللغة والآداب، وعلى رأسها الشعر، ونشوء المؤسسات كدار الندوة وسوق عكاظ وإيلاف قريش والحج، وظاهرة الأحناف والصعاليك ومعركة ذي قار وغيرها، مقدمات موضوعية تمهد لنشوء وتكون الأمة على المستويات الاقتصادية والدينية والاجتماعية والسياسية واللغوية.
ومع الإسلام وبه، وبعد الفتح العربي الإسلامي للبلدان التي باتت تعرف اليوم بالوطن العربي، صُهرت الثقافات والحضارات التي كانت سائدة آنذاك: حضارات ما بين النهرين، حضارات بلاد الشام، حضارة وادي النيل، الحضارة الأمازيغية.. فتوحدت لغويا، ودينيا، وثقافيا، خاصة بعد أن حكمها الأمويون والعباسيون والفاطميون.. ولا شك أن العربية أثرت وتأثرت (لغويا وثقافيا) بالأقوام التي حكمتها طوال القرون التالية..  
ما يعني أن اللغة العربية وآدابها نشأت بحدود القرنين الثالث والرابع الميلادي، ثم نضجت في القرن الخامس للميلاد.. ثم استكملت بنائها  في العصرين الأموي والعباسي (تنقيط وتشكيل اللغة، ونشوء علم النحو)، وقبل ذلك يصعب العثور على دلائل تشير إلى وجود لغة وآداب وحضارة عربية..
 (2~2)
لم تظهر الكتابة إلا بعد اللغة المنطوقة بفترة طويلة، فالحضارات القديمة لم تستخدم الكتابة في عصورها المبكرة. والعربية تأخرت حتى تحولت إلى لغة مكتوبة، فقد ظلت لغة شفهية، وحين احتاجت إلى التدوين لجأت إلى استعارة الأبجدية النبطية، ثم تطوّرت عن الكتابة النبطية التي كانت سائدة في الشمال، وامتزجت فيما بعد مع الخط المسند، الذي كان سائداً في الجنوب..ثم تطورت إلى الخط الحجازي ثم الكوفي.. وأقدم نص عربي عثر عليه يعود إلى سنة 328م (قبر الملك امرئ القيس).
قبل التنقيط كانت العربية تضم 12 رسما للحروف الكتابية، حيث كان يصعب تمييز س عن ش، أو ر عن ز، وكان الحرف يُعرف من سياق الجملة.. بعد التنقيط صار من الممكن التمييز بين الحروف المتشابهة رسما، وصارت اللغة تضم 28 حرفا مكتوبا. منها حرف الضاد الذي تنفرد به عن سائر لغات العالم.
تصنف العربية ضمن عائلة اللغات السامية (الأفروآسيوية)، التي تشعبت إلى شرقية (الأكادية والبابلية والأشورية والكلدانية)، وغربية (الآرامية والكنعانية والفنيقية والعبرية والأمهرية..).. وقد وجدت كلمة عرب في التراث اليوناني والفارسي، وكان يقصد بها أعراب الجزيرة العربية، ولم يكن هناك لغة عربية موحدة، لكن جميع اللغات التي تكلمت بها القبائل والأقوام التي كانت تسكن الجزيرة العربية سميت لغات عربية، منها العربية الجنوبية القديمة، مثل: المعينية، والسبأية، والحميرية (لغة حِميَر)، وكانت تكتب بالخط المسند. واللغات الشمالية القديمة، مثل الثمودية، واللحيانية (لغة مضر)، وكانت تكتب بالخط النبطي. وتلك اللغات تآلفت تدريجيا حتى توحدت بنزول القرآن، باللغة الفصحى. أما الشعر الجاهلي فيعود إلى قرن ونصف قبل الإسلام.
يجمع أغلب الإخباريين العرب، على اعتبار لغة قريش اللغة الفصحى، وأن أهل قريش "هم أفصح العرب لساناً وأصفاهم لغة"، بينما يرى مستشرقون كبار أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد والبادية الشمالية لم تكن كبيرة، وأن اللغة الفصيحة شملت جميع اللهجات في تلك المناطق (تيودور نولدكه).
أما المستشرق "بلاشير" فيقول في أصل الفصحى، أنها تكونت على أساس ما قام به علماء اللغة العرب، في غربلة اللهجات، وضبط قواعدها. وصولا إلى الفصحى الحالية، التي اعتمدت على لغة الشعر ولغة القرآن.
أما "جواد العلي"، فيقول: "القول بأن لغة القرآن هي لغة قريش، وإن لغة قريش هي العربية الفصحى، وإنها لغة الأدب عند الجاهليين، قولٌ بعيد عن الصواب".
ولا ريب أن القرآن وحّد لغات العرب، قبل أن يوحدهم سياسيا وثقافيا، فالقرآن أول كتاب في التاريخ يُكتب بالعربية، وبالتالي هو أم "العربية"، كما هو نتاجها.. وهو الذي حفظ العربية حتى يومنا هذا، كما أنه ضمان بقائها، لكونه المَعين، والمنهل، والمرجع الأصلي، الذي لا يتبدل.
لم تكن اللغة العربية عامل توحيد للشعوب العربية وحسب، بل إنها أثرت في تكوين الشخصية العربية (سيكولوجيا، وسلوكيا)، بسبب طبيعتها، ولهذا من بين أسباب اختلاف العرب عن غيرهم طبيعة اللغة وخصائصها.
تضم اللغة العربية نحو 12 مليون مفردة، (جواد العلي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) وهي بذلك، ربما تكون أغزر لغة في العالم بعدد مفرداتها، لسببين، أولاً: للثراء الهائل بجذور الكلمات العربية التي يتم الاشتقاق عنها، تضم العربية ستة عشر ألف جذر لغوي (اللاتينية تضم سبعمائة جذر، والساكسونية ألفا جذر). وثانياً: لما يسمّى الترادف الناتج عن تعدد لغات القبائل.
تتميز العربية بالفصاحة، والقدرة على الإيجاز، ودقة التعبير، والمجاز، ومرونة الاشتقاق، والترادف، والإعراب (لإعطاء الدلالات على المعاني).. وتتميز أصوات العربية بجمال وقعها على الأسماع وعذوبة جرسها في الآذان. كما يمتاز الخط العربي بالتنوع والجمال المدهش.
تطورت العربية ونمت من حيث اللفظ، فاتسعت مادتها وكثرت مفرداتها بالاشتقاق والتعريب والقياس والتوليد، ولكن، هل حقا استوعبت كل ما تطلبته شؤون الحضارة والعولمة؟ أم إنها في طريق تطورها تأثرت باللغات الأخرى؟ فاقتحمتها العديد من المفردات الأعجمية والأجنبية..
اليوم، تحتل العربية المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد الناطقين بها، بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية، لكن الإنجليزية هي لغة العلم والتكنولوجيا والعولمة والتواصل بين مختلف الشعوب.. كانت الآرامية في مرحلة ما لغة العصر، وكذلك كانت اليونانية، واللاتينية.. أما العربية فكانت في العهد الأندلسي لغة العلم العالمية، لكنها لم تعد كذلك الآن.. بل باتت تتهددها مخاطر الضياع، والجمود، والتأخر عن مواكبة التطورات، خاصة في عالم التكنولوجيا والاتصالات. وحتى ننقذها، ونعيد إليها ألقها وحيويتها لن تنفعنا بكائيات حافظ إبراهيم (أنا البحر في أحشائه الدر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.. )، بل يتطلب الأمر عقلية مرنة ومنفتحة من مجامع اللغة العربية المنتشرة في أكثر من عاصمة عربية؛ فاللغة العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها، كما كان القدماء يملكونها. (طه حسين).
وحتى نخلّص العربية من أدران الشوفينية والعنصرية والاستعلاء القومي، يجب أن نكفَّ عن القول بأن العربية لغة شريفة (كل اللغات شريفة)، أو أنها لغة مقدسة (لا توجد لغة مقدسة وأخرى مدنسة)، أو أنها أصل اللغات (هذه مغالطة تاريخية)، أو أنها لغة أهل الجنة (ماذا ستكون لغة أهل النار!؟)، أو أنها إعجازية (كل اللغات صنيعة البشر).. أو إنها تنفرد بقدرتها على الاشتقاق والترادف (أسرفت اللغات الأوروبية في توليد الكلمات عن طريق النحت، فإذا كانت لدينا نافذة على الاشتقاق، فللآخرين أبواب وشبابيك، كما قال خبير اللغة العربية عارف حجاوي).
كل قوم يعتزون بلغتهم، فاللغة في عين أهلها كالطفل في عين أمه، وهذا شيء طبيعي، وحق مشروع.. ونحن من حقنا أن نعتز ونفتخر بلغتنا.. فهي حقاً لغة جميلة ومدهشة.. ولكن أن نفتخر دون استعلاء، ودون أن نقع في وهم المغالطات التاريخية، والعلمية..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق