أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 21، 2017

مأساة عالم رياضيات - ألان تيورنغ


تدور قصة فيلم "لعبة المحاكاة"، أو (The Imitation game) الحائز على جائزة الأوسكار كأفضل نص مقتبس، حول العالم البريطاني "ألان تورينغ"، الذي استطاع فك شفرة الاتصالات الألمانية في زمن الحرب العالمية الثانية المسماة "إنيجما"، الأمر الذي ساهم فى تغيير نتيجة الحرب. الفيلم من بطولة "بينيدكت كامبرباتش"، و"كيرا نايتلي"، سيناريو "جراهام مور"، وإخراج "مورتن تيلدم".

يجمع الفيلم ما بين الدراما والغموض مع بعض اللقطات الكوميدية الخفيفة، وهو مقتبس عن قصة حقيقية، ويتطابق مع الأحداث التاريخية حتى بالأسماء.. اعتبره النقاد فيلماً متكاملاً من جميع الجوانب التي جاءت مبهرة ومكملة لبعضها البعض (تصوير، حوار، أداء، إخراج، مونتاج، ديكور...). سيناريو الفيلم مترابط ومتماسك، يتنقل بسلاسة وبتوقيت عبقري بين ثلاثة أزمنة مختلفة؛ فيحكي لنا قصة "تيورنغ" الطفل، الذي يعاديه أقرانه، بل ويعذبوه، لأنه مختلف عنهم، ثم يأتي على زمن الحرب ومحاولاته الدؤوبة لفك شفرة "الإنيجما"، التي استعصت على السوفيات والأمريكان والفرنسيين.. ثم فترة ما بعد الحرب وملاحقة القضاء له بسبب ميوله الجنسية.. الحوارات مبهرة ومشوقة وتشد انتباه المشاهد، حتى أنه سيتتذكرها بعد نهاية الفيلم.

تبدأ القصة باختيار "ألان تيورنغ" عالم الرياضيات لقيادة فريق من العلماء، هدفهم الرئيس هو إيجاد طريقة لفك شفرة الرسائل التى تبثها القيادات النازية لقواتها عن طريق آلة رهيبة أطلق عليها اسم "إنيجما"، والتي كانت أقوى وأهم أسلحة "هتلر"، بل المفتاح الرئيسي لنجاحه في حربه في السنوات الأولى من الحرب، والتي مكنته من رفع علم النازية فوق 24 عاصمة في غضون سنتين.

يبدو عالم الرياضيات، بشخصيته الغريبة، غير مقنع بالنسبة لقيادات الجيش البريطاني، ومع ذلك يمنحونه فرصة لعمل شيء ما، أو إحداث أي اختراق.. ولكن، مع إخفاقاته المتوالية يضيق صبر رؤسائه المباشرين، فيضيقون عليه الخناق، ويتعاملون معه بريبة وشك، حتى أنهم يتهمونه بالتجسس، ويهمّون بإغلاق معمله، لكن دعم "تشرشل" له، وكذلك زملائه في العمل ينقذه..   

توصل "تيورنغ" لقناعة بأن احتمالية فك شيفرة "الإنيجما" تتطلب 159 مليار مليار محاولة، وهذا الأمر يستغرق 20 مليون سنة من عمل فريق متكامل من العلماء دون توقف.. ما يعني أنه أمام مهمة مستحيلة.. فرفض فكرة إحداث إختراق لهذه الشفرة المستعصية، وبدأ بتصميم جهاز غريب، أراد له أن يتفوق على جهاز "الإنيجما"، ومن الواضح أنه كان عبقريا بدرجة غير عادية، كان متقدما على جميع علماء مرحلته بسنوات.. تخيل جهازا لم يكن موجودا سابقا، لا بالشكل ولا بالتصميم ولا بالأداء.. أراد أن يجعل الآلة والمسننات تفكر وتحسب بطريقة أسرع من العقل البشري، وبشكل مختلف عنه..

بعد سنتين من المحاولات المستمرة، نجح فريق "تيورنغ" وبطريقة ألمعية بحل اللغز، وتمكنوا من فك الشفرة، لكنهم أبقوا الأمر سراً (ظل من أسرار الدولة 50 سنة)، خشية أن تدرك القيادة الألمانية أن بريطانيا فكت الشفرة، فيقوموا بتغييرها.. فكانت القيادة البريطانية تعلم مسبقا بموعد ومكان الهجمات النازية.. ومع ذلك، لم تكن تتصرف دائما على النحو المتوقع، فمن باب التمويه كانت تختار بدقة الأهداف التي تريد إنقاذها، أو تلك التي تضحي بها.. وحسب تقدير الخبراء تمكن "تيورنغ" بجهازه الجديد الذي أسماه "كريستوفر" من إنقاذ حياة ما يقارب 14 مليون إنسان، وبفضل اختراعه، اختصر سنتين من الحرب، كانتا ستجران خرابا ودمارا هائلين، بل وبفضل هذا الاختراع تمكن الحلفاء من هزيمة النازية وإنهاء الحرب..

أهمية وعبقرية جهاز "تيورنغ" لا تكمن فقط في حسم نتيجة الحرب، وإنقاذ أرواح الملايين.. بل وأيضا، في كون جهازه مثّل الجيل الأول من أجهزة الحاسوب، والذي بفضل فكرته العبقرية أمكن اختراع الكمبيوتر المتطور فيما بعد..

أين المأساة في القصة؟ عالم الرياضيات الفذ، الذي غيّر مسار التاريخ السياسي للعالم بأسره، والذي فتح الطريق لاختراع الكمبيوتر، ووضع الأساسات الأولى للذكاء الإصطناعي.. والذي لولاه لتأخر اختراع الحواسيب عقود أخرى.. كان مثليا.. وفي تلك الفترة كانت السلطات البريطانية تتعسف بحق المثليين، وتعتبر المثلية جريمة يعاقب عليها القانون.. وبالرغم من أهمية اختراعه بالنسبة للجيش، إلا أن رؤسائه المباشرين لم يتأخروا لحظة عن الانتقام منه؛ وضع القاضي "تيورنغ" أمام خيارين فقط: إما السجن، أو إجباره على تناول جرعات أدوية كيماوية معينة تعمل على معالجة هرموناته الذكورية، ليعود "طبيعيا"!!

بعد فترة وجيزة من تعاطيه الأدوية، بدأت يديه ترتجفان، وأخذت تظهر عليه علامات النحول والضعف، ثم دخل في نوية كآبة، إلى أن مات منتحرا، عن عمر بلغ 41 سنة.. تناول قضمة من تفاحة مغموسة بسم السيانيد، أنهت حياته فورا.. ويقال أن شركة "أبل" للكمبيوتر صممت شعارها تخليدا لذكرى مؤسس علم الحاسوب الحديث، مع العلم أن الشركة تنكر ذلك..

لا أحد يعلم ماذا كان يمكن لهذا العالِم العبقري أن يخترع لو قُدِّر له أن يعيش 20 أو 30 سنة أخرى؟

ولا أحد بوسعه تقدير حجم الخسائر التي تكبدها العالم من جراء انتحار "سقراط"، أو "جورج إيستمان" مخترع الفيلم السينمائي ومؤسس شركة كوداك، أو "والاس كاروثرز"، مخترع النايلون ومكتشف المطاط الصناعي.. أو من حبس "غاليلو"، أو من قتل الفيلسوفة السكندرية "هيباتايا"، أو "ابن المقفع"، أو تقدير خسائر العلم من حرق كتب "ابن رشد"، وحرق مكتبة بغداد والإسكندرية.. كل هؤلاء (وغيرهم كثيرون) انتحروا، أو أُجبروا على الانتحار، أو قُتلوا، أو سُجنوا.. لأن المجتمع لم يفهمهم، ولأن السلطات حاربتهم..


هؤلاء هم خسائرنا الكبرى.. والمأساة أن العالم ما زال يرتكب نفس الحماقة..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق