أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 28، 2016

مقلوبة فلسطينية ومنسف أردني


في مقالتها الشيقة، دافعت الكاتبة الأردنية "بسمة النسور" عن حقها في نشر ما تشاء على صفحتها الخاصة، بما في ذلك أطباقها الشهية التي تجيد إعدادها، خاصة المنسف الأردنيّ، الذي وصفته بأنه نخب أول، مكتمل العناصر والشروط، مطابقاً للمواصفات الفنية.. وانتقدت في مقالتها المنشورة على "العربي الجديد" نظرة مجتمعاتنا الدونية تجاه فن الطهي، التي ترى فيه عملاً قليل الشأن، يأتي في أسفل سلم المهن، باعتباره لا يتطلب علماً أو معرفة وموهبة، يمتهنه من فشل في إيجاد مهنة "محترمة"..


وتؤكد "بسمة" بأن الطهي فنا متميزا يتطلب إتقانه عناصر عديدة، في مقدمتها الخيال والموهبة والقدرة على مزج العناصر، بما يعني تورّط الحواس كلها. وبهذا المعنى لا تختلف خطوات إعداد طبقٍ ما عن أي عمل إبداعي آخر، إذ يضع الطاهي البارع الموهوب بصمة روحه وملامحها في الطبق، فيضفي عليه الخصوصية والجمال والتميز. 

في ثقافتنا الشعبية نقول أن "النَّفَس" أهم عنصر في إعداد أي طبخة.. ولكن ما هو "النَّفَس"؟! بوسع أي شخص استحضار وصفة لطبق شهي، من كتب الطبخ المنتشرة بكثرة، ثم إتباع خطوات الإعداد حرفيا.. ولكن هل بالضرورة سيحصل على نفس الطعم والنكهة المميزة؟ في واقع الأمر، الطبخة لا تنجح دائما.. أحيانا يخيب أملنا، ولا نحصل على الطعم المتوقع والمأمول.. وهنا يشكل "النَّفَس" الفارق بين طاهٍ وآخر.. "النَّفَس" هو السر الكامن في التفاصيل، في الإتقان، والصبر، وعدم المبالغة في كثرة البهارات، واختيار الأنواع المناسبة بدقة.. وأحيانا في الاجتهاد الشخصي والخيال والإبتكار، والجرأة في لخروج عن المألوف..

إعداد الطعام لم يعد عملا روتينيا تؤديه الأم لإسكات جوع أطفالها.. الطهي فن راق، وعملية معقدة، تتطلب مهارات غير عادية، وهو مجال واسع للتنافس الشرس.. واليوم بات علما يدرّس في أغلى المعاهد المتخصصة، ومن ينجح فيه يحظى بوظيفة مجزية.. وكتب الطبخ هي الأكثر مبيعا.. وربما هي الوحيدة التي تدر دخلا على مؤلفيها..  

وأيضاً، التلذذ بالطعام، وتناوله بشهية، من الأشياء الممتعة في الحياة، وربما أهم المتع، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات، كما أن تذوقه، رغم بساطته، مسألة صعبة، وباتت علما بحد ذاته، يتطلب مهارة وتدريب، وهي حرفة نادرة.. التعفف في الأكل، هو السعادة بالاكتفاء بتناول برتقالة عشاءً.. البساطة هي المهارة في مزج أشياء تبدو متناقضة: بطيخ مع جبنة، بندورة مع بيض...

منذ اليوم الأول لزواجنا، كنا متحرريْن من النظرة السلبية تجاه الطبخ، ولم نعتبر يوما أن شؤون المطبخ من اختصاص المرأة.. ليس بدافع الحب والتعاون فقط؛ بل لأني أجد متعة خاصة في الساعات التي أمضيها في المطبخ.. أحيانا تنضج في ذهني مقالة قبل أن تنضج المعكرونة في الفرن.. خلود تجيد اختراع أكلات جديدة ومختلفة، وأنا تنجح طبختي حين أتقيد بتوجيهاتها.. ومن بين الأكلات التي أزعم أنني بارع بها: "المقلوبة".. كل من تناولها في بيتنا أكّد على ذلك، ربما من باب المجاملة، لكن بعضهم يمكن أن يجامل في أي شيء إلا في تقييم الأطباق..

ذات أمسية، في إحدى مقاهي رام الله الجميلة، كنا أنا وخلود، وزياد خداش، وهنادي نتجاذب أطراف الحديث (يعني بنتخرف)، اقترب منا النادل بخجل، وقال: استمعتُ لبعض حديثكم، واستنتجت بأنكم كتّاب ومثقفون.. فقلنا له: إلى حد ما.. فقال، أعرف كثيرا من الكتّاب، وأخذ يذكر فلان وفلان.. وقلنا له: فعلا هم كتّاب مميزون، فقال سمعت عن كاتب مشهور بإعداد المقلوبة، اسمه عبد الغني.. هنا ظننتُ أني أخطأت السمع، فطلبتُ منه أن يعيد الجملة الأخيرة، فكررها.. على الفور انفجرت منا ضحكة مدوية، إمتدت لآخر السهرة.. معقول! أي كاتب يحب أن يسمع ثناءً على كتابه الأخير، أو على مقال مميز، أو إشادة بأسلوبه... لكن أن يكون مشهورا بالمقلوبة!! من جهتي فرحت لبساطة النادل وتلقائيته، خاصة حين تفاجأ أن من يتحدث عنه هو من يجلس أمامه مباشره، ويكلمه..

الصديق "خالد سليم" اشتهر بكتاباته المميزة عن الطبخ، ويحظى بجمهور واسع من القراء، يستطيع بكل براعة، وبأسلوب شيق أن يصف أي طبق فيجعله شهيا، حتى لو كان صحن مخلل، أو صحن رز بايت.. يعني بفتح النفس عالأكل.. برشاقة كلماته وجمال تعبيراته يجعل القارئ يتيه بين عذوبة اللغة ولذة الطعام.. لست متأكدا إذا كان ماهرا بالطبخ مهارته في وصفه..

على أية حال، المقلوبة، من بين الأطباق الشهية التي يشتهر بها المطبخ الفلسطيني.. ولكل شعب طبقه المميز، ولكل مبدع مجاله وأسلوبه وبصمته.. في الكتابة، والتصوير، والرسم، والشعر... والطبخ..

وكما يحق للشاعر نشر قصيدته، والفنان لوحته.. من حق أي شخص أن ينشر صورة أطباقه.. وكما تقول "بسمة": مثل هذه السلوكيات البسيطة تُعد من أشكال التمسك بالأسباب البسيطة الممكنة للسعادة، في حياتنا المقفرة القاحلة من أسبابها الحقيقية.. وليس في نشر صورة لوردة، أو لشروق الشمس، أو لطبق منسف أي خطورة على الأجيال الطالعة..

تعالوا نستمتع بمفردات الحياة البسيطة، ونحتفل بها.. أحيانا حبة فلافل، أو صحن مجدرة، أو قلاية بندورة تكون  أشهى من خاروف محشي.. فقط إذا اقترنت الحالة بالحب، وأردنا أن نتغلب على منغصات الحياة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق