أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 13، 2015

إلى أبي .. مع الشوق


في البرزخ الممتد بين البداية والنهاية، كان أبي .. هو ككل الآباء، لكنه لا يشبه أيّاً منهم .. صغيرا حملته العصافير بين الحقول، جميلا مثلها، ثم يافعا، يشق كوّة في جدار الصعاب، فشابّاً يمضي نحو حلمه محلّقاً مثل صقر، ثم كهلا أنضجته السنون أنيناً أنينا، على مهل، ثم شيخا يطير إلى مدارج النور، خفيفا مثل فراشة ..

مضى على رحيله سنوات عديدة، ولو أن للحنين صوتا لنادى عليه ليبوح له، ولو أن للوجع لونا لصبغتُ به الآفاق، ولو كان الشوق حصانا لأطلقته في السهول ليواصل صهيله حتى آخر المدى ..

كانت "بيت نبالا" عشقه الكبير، وأرض أحلامه المشتهاة، لم تغب عن باله يوما، كانت ضيفة مقيمة في كل قصصه، يزج بها بين كل سطرين، ويردد لحنها مع كل أغنية، بعد نصف قرن من فراقها، رسمها دون أن ينسى بيتا واحدا، أو ظِلاً لسور، ظلت خبز ذاكرته، ونار هواجسه، تطارده في منامه، وتنسل بين أصابع أمنياته .. من أجل عينيها امتشق السلاح، وفي سبيلها شرّع صدره في مهب الريح.


في "الفحيص"، وعلى مدى عشرون عاما، كان يستحضر شرفات الصبح مبللة بالندى، ويغسل يومه بالتعب، هناك أينع شبابه بكل عنفوانه؛ فألقاه في عين العاصفة، أراد أن يلوي عنق المستحيل، وأن يرصّع سماواتنا بأقواس قزح، هناك في غرفتين ومصطبة، كان يلم أشلاء العائلة كلها، قبل أن تتبعثر في أربع رياح الأرض، غرفتين صغيرتين تتسعان لحب يكفي مدينة، ومصطبة مفتوحة على فضاء بحجم الكون، تتناثر فيه ضحكات المساء المشبع بالحنين.

بين "الكويت" و"صويلح"، سفح جُلَّ عمره على عتبات الغربة، بلياليها الكئيبة، وبرد صحرائها، وقيظ أصيافها .. كان الزمان يمر عليه بطيئاً، مثل نهر راكد، ثقيلا مثل جبل صامت، متأرجحا مثل هودج، وكلما أضناه الشوق يشعل فؤاده بالذكريات، ليبدد بضوئها عتمة الفراق، وإذا أنهكه المسير، أو أتعبته الأسفار  يعود ليقف مشدودا مثل قامة رمح.

كل ما قيل عن الأب لا يساوي وقع خطواته على عتبة البيت .. الأب روح الزمان، الأب عطر المكان .. الأب اختزال المعاني والكلمات ..

كان يبدأ رسائله دوما بعبارة: "أولادي، فلذة كبدي"، كان يسرّج حروفنا في الصباح، كي نمتطي صهوة الكلام، ثم يغلّف حبات المطر حتى لا تبتل حقائبنا المدرسية .. الأب غيمة واعدة تظلل من يسكن تحتها بالأمل، الأب نجمة معلقة في سماء الساهرين، وبوصلة للحيارى والتائهين ..

كبرنا في ظله، دون أن نحس بالعمر، دون أن نعرف أن أيامنا التي نأخذها إنما نسلخها من عمره، وكان راضيا بهذه التضحية، كان يبيع آلامه ليشتري ضحكاتنا، ويقايض أرقه بنومنا، ويسفك سنين غربته، ليعود كل صيف محملاً بالهدايا .. كبرنا وما زلنا نشعر أمامه أننا أطفالا. وما زلنا نراه كل مساء عائداً بصيده مثل نسر جاب البراري الفسيحة، كنا نعرف أنه إذا ما أنكرتنا الحياة، فإن صدره سيضمنا .. وإذا عطشنا سيفيض علينا بينبوع حنانه.

قبل أن نعرف "الإيميلات" كنا نتواصل بالرسائل المعطرة، أثناء دراستي في الغربة، كانت لدي هواية جمع الرسائل التي تصلني من الأهل والأصدقاء، وعندما تخرجت كانت الحصيلة بضعة مئات من الرسائل، كان ثلاثة أرباعها منه. وطوال إقامتي في السجن، وكان شبك الزيارة متاحا لأي مشتاق، الوحيدان اللذان لم يتغيبا عنه مرة واحدة ... هو، وأمي ..

سأعتذر له كثيرا، لأني فهمته أكثر، حين صرتُ أباً .. عرفتُ مغزى إماءاته، وأسباب لهفته، ولماذا كان حانقا ذاك المساء، وما الذي أقلقه حين غاب أخي، ولماذا رقص فرحا في أعراسنا، وبكى يوم تخرجنا، ولماذا خبأ دمعته عنّا لتحرقه في وحدته .. عرفتُ إجابات أسئلته لاحقا، وأدركتُ أن صمته ونظراته الخفية، لم يكونا حباً فقط؛ كانا قصيدة حب.

في أيامه الأخيرة، وعلى مدى ليال طويلة .. أليمة، تقلّبَ في مضجعه، يعصر قلبه مِراراً وتكراراً، فلا تخرج منه كلمة واحدة .. وفي يوم "تموزي" جميل، سماؤه زرقاء مدهشة، من شدة جماله من المفترض أن لا يغادر فيه أحد، لا موتاً ولا سفرا .. لكنه اختار الرحيل .. 

كم هو مفجع أن يموت الحبيب قبل نضوج الحلم بوقت قصير، سأظل أكره السرطان لأنه استولى على جسمه.

سبعة وستون سنة ظلت متصلة كسلسال ذهب، تفككت دفعة واحدة، وأخذت تتطاير سنة إثر أخرى بلمح البصر، مكونة غيمة طرية من رائحة الصنوبر والخزامى، تاركة ورائها طيف ذكريات لا يُمحى، ثم تصاعدت برشاقة في فضاء تحفُّ به الملائكة، لتحلّق بعيداً بعيداً في مشهد يجبس الأنفاس، هناك في علّيين .. حملَتْ روحه أجنحة نورانية شفافة، وطارت به وراء المعنى الذي طالما بحث عنه.

لم يقل الكثير في لحظاته الأخيرة، كان مشغولا بلقاء ربه .. توقف قلبه الحنون عن الخفقان، دون ألم، حتى اللحظة الأخيرة ظل بهيّاً متألقاً كما عاش، وكما رغب أن يموت، محاطا بأبنائه وأحبته.

كل ما كُتب، وما أنشده الشعراء، وما خبأه القلب، وما دمعت له العين، وما تراكم عبر السنين ..  كان مجرد تدريبٍ على هذه اللحظة الفائقة؛ اللحظة الموجعة .. حين أغمضنا عيوننا ولم نجده .. حين انهار الجدار الذي ظلّت تستند إليه أرواحنا المتعبة ..
كانت السماء بشمسها وغمامها، والأرض بسهولها الخضراء وأنهارها وغاباتها المطيرة، والليل بأشجانه وموّاله وأغانيه الحزينة، ونحن بأشواقنا وارتباكنا وفجيعتنا وخسارتنا الفادحة وأكفّنا الضارعة .. كنا جميعا في مقدمة المشيّعين .. مضينا بصمت في دربنا المكلوم، ومضى هو بكل بهائه نحو السماوات العلى ..

لروحه السلام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق