أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 17، 2014

بقالة تشرين


"أبو محمد"، أستاذ لغة عربية، في أوائل الأربعينات من عمره، هو في الأصل من قرى غرب رام الله، لكنه كان يقطن في "عين مصباح"، كان مهووسا بالسياسة، وليس له من حديث سواها، وما يساعده على ذلك تمكنه من اللغة. كانت لديه بقالة في شارع النهضة، مقابل مغفر الشرطة القديم (الذي تم قصفه في بداية الانتفاضة)، أسفل فندق الوحدة، بقالة بسيطة، يقضي فيها بقية نهاره بعد فراغه من المدرسة، يبيع المرطبات والألبان والمكسرات، وبعض أنواع الساندويتشات، ويستمع من جهاز الراديو الترانزيزستر لإذاعة صوت العرب.

بعد حرب تشرين 1973، كان منتشيا بطريقة غير عادية؛ فقدّم لزبائنه عروض تخفيضات غير مسبوقة، بمناسبة "العبور"، و"انتصارات تشرين" ...حتى أنه قرر تغيير اسم بقالته، لتصبح "بقالة تشرين" ..
بعد يومين بالضبط من تغيير الاسم، جاءه الكابتن "شلومو"، ودار بينهما الحوار التالي:

- مرحبا أبو محمد.
- أهلين خواجا.
- اعملي لو سمحت ساندويتش لبنة مع مرتديلا، وما تنسى تحط المخلل، وقنينة كولا.
يجلس الكابتن "شلومو"، ويقلب المحل بناظريه، ويتأمل وجه أبو محمد بهدوء مصطنع، قائلا:
- قل لي: إنتَ ليش سميت محلك بقالة تشرين ؟!
- والله، يا كابتن، مثل ما بتعرف، تشرين أحلى شهر بالسنة، بتسقط فيه أوراق الأشجار، وبكون بداية للتغيير .. وأنا حبيت أكرم هالشهر بطريقتي ..
يجيب "شلومو" كاتما غيظه: طيب، شو أشياء ثانية كمان بتسقط في هالشهر، غير أوراق الشجر ؟!! يا أستاذ أبو محمد ؟!!
- سلامتك ..
- قل لي، أبو محمد، إنتَ ليش ما عندك تلفون ؟!
- والله يا خواجا، قدّمت طلب تلفون قبل أربع سنين، وبدي كمان عشرة سنين حتى أحصل على دور ..
- طيب، أنا بدي أساعدك، بكره بكون عندك تلفون، بس بشرط تكتب الرقم بجانب اسم البقالة .
- بكون ممنون، بس معقول بهالسرعة، وبهالبساطة !!!
يخرج "شلومو" وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة.

وبالفعل في اليوم التالي كان عمّال البريد يوصلون الأسلاك لتلفون أبو محمد الجديد، بينما الخطاط يصحح يافطة المحل، مضيفا الرقم، لتصبح: بقالة تشرين - هاتف رقم 1967. (الأرقام في حينها كانت من أربعة خانات فقط).

حاول "أبو محمد" أن يبتلع الإهانة، وأن يصبر على تعليقات الناس الساخرة والمؤنبة .. لكنه لم يستطع، فقبل أقل من أسبوع كان قد أغلق محله نهائيا، وألقى باليافطة في الحاوية، وانزوى على نفسه، ودخل في حالة من القنوط والعزلة .. وكان عليه أن ينتظر ثلاثين سنة أخرى، إلى أن اجتاح الجيش الإسرائيلي مخيم جنين في نيسان 2002، حيث هناك تمرغت كرامته بالوحل.


بعدها مباشرة، قرر أبو محمد أن يفتتح لابنه بقالة في شارع "ركب"، وأن يكتب على اليافطة: بقالة نيسان - هاتف 1965. وأن يجلس بزهو، منتظرا قدوم أي كابتن، ليشتري من عنده ساندويتش مارتديلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق