أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 05، 2014

غيمة تحولت إلى عمارة


في وسط البلد، وتحديدا بجانب "الكازية"، تقع "مكتبة الغد"، صاحبتها سيدة أربعينية وقورة، تمضي معظم وقتها في المطالعة، وهي إلى جانب ثقافتها كانت ماهرة بالتسويق؛ فإذا ما سألتها عن أي كتاب في أي موضوع، تزيل نظارتها الطبية عن وجهها، وتبتسم لك بلا تكلف، وتقدم عرضا موجزا عنه، ومن النادر أن تذم كتابا، أو تنتقص من شأن كاتب .. هذه المرة أشرت إلى كتاب "العبقريات" للعقاد، وهممتُ بأخذه، فاعتذرت لي بأنه محجوز، فقلت لها لمن ؟ وسرعان ما برقت عيناها بإجابة جاهزة: إنه لأحمد .. ثم استرسلت كما لو أنها تنتظر هذا السؤال: إنه طالب في الصف التاسع، يأتي كل آخر شهر ليشتري كتابا بعد أن يجمع ثمنه من مصروفه اليومي .. قلت لها حسناً، سآتي آخر الشهر لأتعرف عليه. لا أدري هل قلت ذلك بدافع الفضول، أم بدافع الرغبة في مساعدته !!

في موعده المحدد دخل من باب المكتبة؛ فتى نحيل، أنيق الهندام، تغطي وجهه ابتسامة خجولة .. بدأ بجولة بين الرفوف، وعيناه اللامعتان تتنقلان بين الكتب والعناوين .. وأخيرا تناول كتاب "العبرات" للمنفلوطي، ثم دس يده في جيبه وأخرج ورقة من فئة العشرين شيكلا، ابتسمت له، فبادلني التحية، مددت يدي لأصافحه، كانت يداه طريتان، أشبه بغيمة، شددت عليهما قليلا فتساقطت بضع قطرات من الماء ..

ناولته "الأجنحة المتكسرة" لجبران، وقلت له: أمام كل كتاب تشتريه، سأهديك كتابا آخر، كانت فرحته لا توصف، شعرت بأنه يريد الرقص، تبادلنا الحديث والضحكات حتى امتلأت الغرفة بالغيوم، وقبل أن يخرج لمحتُ ساقا أخضر أخذ ينبجس من بين الرفوف ..

في الشهر الثاني لم يأتي أحمد، ثم غاب ثلاثة أشهر متتالية، سألته بقلق أين أنت ؟ وماذا حصل ؟ قال بنبرة حزينة، اكتشف أبي مكتبتي الخاصة، عشرون كتابا، قَدَّر ثمنها بأكثر من أربعمائة شيكل .. جُنَّ جنونه .. أربعمائة شيكل يا مجرم تشتري فيها كتب وأنا بتغطّى ببطانية واحدة مهريّة !! من بكره رح تنـزل معي عَ الورشة، ومش حَ استناك حتى تنهي المدرسة ..
بعد سنتين التقيته في الشارع مصادفة، صافحته بحرارة، كانت يداه خشنتان، ابتسامته مرتبكة، وتعابير وجهه محايدة .. وسحابة خفيفة من الضباب تحيط به، سألته عن كتبه، فأجاب بأن أباه تدفأ بها يوم الثلجة الكبيرة .. ثم مضى في سبيله دون أن يلتفت للوراء، حتى ذاب في الضباب ..

قبل يومين انتهى تشرين، في ذلك المساء التقيته في المول، كانت يداه ناعمتان باردتان، وخدوده حمراء مكتنـزة، يتحدث بهاتفه النقال بعصبية، أشار إلي بالجلوس، ثم أشار للنادل بطرف إصبعه دون أن يتوقف عن الحديث، تأملته بسرعة، لم أجد فوقه أثرا لتلك الغيمة، كانت تنبعث منه رائحة عطر فرنسي نادر، لكني استنشقتُ بدلا منها بعض الغبار .. خرجتُ مسرعا فوجدت كل الغيوم قد اختفت من سماء المدينة، وقد نبتت مكانها غابة أسمنت  ..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق