أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 16، 2014

مقاييس ومعايير عجيبة لنظام العولمة

اعتبر بعض المفكرين أن العولمة كمنظومة فكرية اقتصادية سياسية شاملة تأتي كمرحلة تكميلية وتتويج لحقبة الرأسمالية، ولكن بِسِمات وقسمات مختلفة، مثّلَت تقنيات الإعلام الحديثة وثورة المعلومات حجر الزاوية فيها، فيما عبرت عن هذه التحولات جملة من المعايير والمقاييس ما انفكت تفرض نفسها على حياتنا وأنماط  تفكيرنا بكل قوة، وتعيد قولبتها بما يخدم توجهات أقطاب العولمة، أي التكتلات الاقتصادية والنخب الحاكمة والشركات العابرة للقارات.
ورغم الطبيعة الاقتصادية النفعية للعولمة، كدافع ومحرك، إلا أن الأبعاد السياسية والأيديولوجية (كما هي دوما) لم تكن متوارية في خلفية المسرح؛ بل كانت لاعبا أساسيا، تظهر تجلياتها بكل وضوح. وكالعادة كان للقوى الإمبريالية وحليفتها الصهيونية الدور الأبرز، ولكن بوجه جديد، رغم أنها لم تخجل من إظهار وجهها الاستعماري القبيح.
فمثلا، منذ تأسيسها مُنحت جائزة نوبل لأكثر من ثمانمائة شخص (علماء وأدباء وقادة سياسيين) مثّلَ اليهود الحائزين عليها نحو 20 % منهم، رغم أن عدد اليهود في العالم لا يتجاوز 0.2  %، فإذا سلمنا جدلا بفرضية أن العرب متخلفين وجهلة، فهل اليهود أذكى من الألمان والفرنسيين واليابانيين والكوريين، ومن بقية شعوب الأرض ؟! وهل يُعقل أن يُمنح ثلاثة رؤساء وزراء لإسرائيل (بيغن وبيريس ورابين) جوائز نوبل للسلام !! وفي رقبة كل واحد منهم مذبحة واحدة على الأقل !!
وأيضا هناك معايير تصنيف أفضل جامعات العالم، (تصنيف شنغهاي، وغيره) وهي معايير ما زالت مثار جدل، وتتعرض للكثير من الانتقادات من جانب جهات أكاديمية مرموقة، ونلاحظ أنه لم تم اختيار أفضل مائة جامعة مثلا، أو أفضل خمسمائة أو حتى أفضل عشرة آلاف، فإن الجامعات العربية دائما لا تُذكر، وبالكاد تحصل بضعة جامعات فقط على المراكز الأخيرة !! في حين دائما تحتل الجامعات الإسرائيلية المراتب المتقدمة، بنسب تتفوق فيها أحيانا على الجامعات الأوروبية !!
وفي مجال نظم الإدارة والجودة، ظهر في العقود الأخيرة ما يعرف بنظام الأيزو، بأقسامه المختلفة (يختص في مجالات التوثيق وتنظيم الإدارة)، ونظام الهاسب، (يختص بسلامة الأغذية، ومنع التلوث)، وغيرها العديد من نظم الجودة والإدارة الشاملة، التي صارت شرطا أساسيا لأي مؤسسة أو شركة أو مصنع، حتى يستطيع تسويق نفسه وطرح منتجاته وخدماته في الأسواق العالمية .. ورغم أهمية هذه النظم الحديثة، ودورها الكبير في تحسين الأداء؛ إلا أنها في جوهرها لا تختلف كثيرا عن النظم القديمة التي عرفها الإنسان في كافة المجالات؛ فقد شيَّد المصريون الأهرامات، وأسسوا أهم وأقدم نظام توثيق، لم يغفل عن ذكر شيء في تاريخ مصر القديم، كما بنت شعوب ما بين النهرين أقدم وأعرق الحضارات، وكذلك فعل الفرس والرومان والإغريق، وأيضاً العرب والمسلمون .. دون أن يعرف أيٍ من هؤلاء شيئاً اسمه ISO، TQM، GMP، IEC، وغيرها، ومع ذلك حققوا أهم المنجزات في تاريخ الحضارة الإنسانية.
وحتى في العصر الحديث، اليابان مثلا، زرتها عام 1999 من خلال دورة تدريبية، وحظيتُ بفرصة زيارة أكثر من عشرين مصنعا في مجال الغذاء، وكنتُ كلما أزور مصنعا أسأل المهندسين المختصين: هل تطبقون نظام الهاسب ؟ كان معظمهم يجيب بالنفي، وبعضهم لم يسمع به !! ومع ذلك كانوا يطبقون أنظمة محلية تعطي نفس النتائج والقيمة. ربما اليوم تغير الوضع، وازدادت أعداد المنشآت التي تطبق الأنظمة الحديثة (في اليابان وغيرها)، لأنها صارت متطلبا ضروريا لدخول السوق العالمي.
طبعا أنا لست ضد أنظمة الجودة الحديثة، لكن بيت القصيد هو أن جهات خفية (أو معلومة) تديرها عقول جبارة تخترع أنظمة ومصطلحات وتبتدع معايير ومقاييس ثم تفرضها على العالم، وتجني من ورائها أرباحا خيالية، ونحن لا نملك إزاءها شيئا، سوى التسليم بها ومواكبتها.
في الجانب الظاهر من هذه النظم والمعايير يتم تنظيم المواصفات والمقاييس الفنية ونظم الإدارة على أسس علمية متطورة، ولكن في الجانب الخفي يتم تنظيم وهندسة وضبط التطورات العالمية ومصطلحاتها وقيمها في شتى المجالات على إيقاع نظام العولمة والقائمين عليها، وبالشكل الذي يخدم مصالحها، ويبقيها متفوقة ومسيطرة.
ولكن معايير العولمة لم توظَّف فقط لخدمة الشركات متعددة الجنسية، بل صارت أداةً لتسويق الأفكار والأشخاص والقيادات والأفلام والمدن، وكل شيء .. ولكل مجال معاييره وأرقامه: قائمة top ten هي من يحدد أفضل عشرة أفلام، قائمة فوربس لأغنى الأثرياء، مجلة التايمز الأمريكية هي التي تقرر كل سنة من هي شخصية العالم، ومجلة التايمز للتعليم العالي الإنجليزية هي من يحدد أفضل الجامعات، ومجلة الإيكونومست تحدد أجمل عشرة مدن في العالم، مجلات الأزياء الأمريكية هي من تقرر ملكة جمال الكون، وهكذا .. بحيث أن من لم يُذكر اسمه في تلك القوائم عليه إعادة حساباته والعمل بجدية حتى يدخلها في المرة القادمة !!
فعلى سبيل المثال؛ منذ أن ظهرت موسوعة جينيس للأرقام القياسية، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بيع منها أكثر من مائة مليون نسخة، وإذا كانت في بداياتها تهتم بالقياسات العلمية والجادة، فقد صارت تضم كل ما هو عجيب وغريب ومستهجن: أقصر قزم، أطول شنب، أقوى عطسة، أطول فترة بدون استحمام، أضخم نمرة حذاء، أحلى قرد ... ورغم سطحية وسذاجة الكثير مما تتضمنه؛ إلا أنها صارت علامة تجارية تحرص كل شركة أو منشأة تجارية أو مؤسسة في أي مجال آخر، وكذلك الأفراد على دخول هذه الموسوعة وتسجيل رقم قياسي فيها، لما في ذلك من دعاية تحقق لهم الانتشار والشهرة والأرباح.
قديما قيل: "لكل زمان رجاله"، أما اليوم فلكل زمان مجلاته وقوائمها التي تحدد لنا كيف نأكل، وبماذا نحلم، وأين نسهر هذا المساء ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق