أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 11، 2010

حكومة دايتون


مصطلح "حكومة دايتون" صار من المكونات الثابتة لخطاب حماس الإعلامي، وتكاد لا تخلو مناسبة وأحيانا بدون مناسبة إلا ويُذكر فيها "دايتون" ومعه تُذكر كل الشرور والسلبيات ثم تُنسب جميعها إلى سلطة رام الله ... وفي خطابه الأخير ادّعى مشعل أن دايتون هو العقبة الكأداء أمام نجاح الحوار الوطني، وأن هذا الجنرال الأمريكي قد عمل بكل ما تيسر لديه من قوة على استئصال حماس من شأفتها والقضاء عليها !

وطبعا، فإن "دايتون" هذا ليس شبحا تاريخيا، ولا هو صنيعة مخيّلة حماس بقصد النيل من السلطة وتشويه سمعتها، بل هو حقيقة ماثلة ولا ينكرها أحد، ولكن من الواضح أن حماس وغيرها ممن يعارضون السلطة قد دأبوا على التهويل والتضخيم في هذا الموضوع،
 منطلقين من ذهنية المؤامرة وتحميل الخصم مسئولية كل ما يحدث، واستخدام "دايتون" وغيره كشماعات تُعَلَّق عليها أوزارهم أو حجة لتبرير فشلهم، وقد وصلت مبالغات البعض حد الإسفاف والتسطيح.

وأيضاً، فإن "دايتون" ليس رسول سلام، ولا هو المنقذ والمخلّص، وهو بعيدا عن القراءات الرغائبية المسيّسة عبارة عن جنرال أمريكي يترأس فريقاً دولياً يضم كل من بريطانيا وكندا وتركيا بالإضافة للأمريكان، أُوكلت إليه مهمة إعادة بناء الأجهزة الأمنية للسلطة الوطنية، ومراقبة تنفيذ طرفي الصراع لخطة خارطة الطريق، ومهمته تقتضي منه التنسيق مع جميع الأطراف (مصر، الأردن، إسرائيل، الرباعية الدولية، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة .. ) وقد بدأ مهمته فعليا أواخر العام 2005، أي في أعقاب التغييرات السياسية الكبيرة التي حدثت في فلسطين والمنطقة بعد استشهاد ياسر عرفات وانتخاب محمود عباس رئيسا للسلطة، وقبيل نجاح حماس في انتخابات المجلس التشريعي وتشكيلها أول حكومة حمساوية، وهي مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد شهدت حالة من الفوضى العامة والفلتان الأمني وغياب الأفق السياسي، وتزايد حدة الصراع الداخلي والتنازع على الصلاحيات وظهور بوادر الانشقاق والانقسام، مع وجود أجهزة أمنية ضعيفة ومترهلة وقد دمر الاحتلال كافة مقراتها وإمكانياتها وبُناها التحتية وأضعف هيبتها في الشارع، وقد أدت هذه الحالة إلى مزيد من الضعف والتفكك والتشظي في الأجهزة الأمنية، إلى الحد الذي سمح لحماس باستغلال هذا الضعف والتذرع به لتنفيذ مشروعها في غزة.

ومن السذاجة الاعتقاد بأن "دايتون" ومن وراءه الإدارة الأمريكية قد جاءت للمنطقة وأنفقت مئات الملايين من الدولارات فقط من أجل تدريب بضعة آلاف من الجنود الفلسطينيين على الرماية أو على فك وتركيب السلاح وغيرها من الأمور الفنية التي يجيدها ضباطنا بشكل محترف، فمن البديهي أن أي دعم عسكري أو اقتصادي تقدمه أمريكا أو غيرها من الدول سيكون من وراءه أهدافا سياسية وغايات إستراتيجية، ولكن ليس كل هدف يخطط له الآخرون سيتحقق بالضرورة، ولا يعني التقاء المصالح أو تفاهم الفرقاء عند نقطة معينة أنها تبعيّة واستسلام.

كما أنه من الصعب نفسيا ووطنيا على أي فلسطيني أن يتقبل فكرة وجود ضابط أمريكي يدرب القوات الفلسطينية ويشرف على هيكلتها ويعطيها التوجيهات ويحدد لها المسارات، ولكن في الممارسة السياسية تجري الأمور على نحو مختلف، أي بمعزل عن العواطف والرغبات، لأنها تخضع لاعتبارات موازين القوى والتحالفات الإقليمية وطبيعة المرحلة السياسية، وبالتالي قد تلجأ القيادة لخيارات غير مقبولة شعبيا ولكنها ضرورية على المدى الإستراتيجي، وهذه من أبسط بديهيات العمل السياسي التي مارستها كل القوى والحركات والدول عبر التاريخ.

قد يكون لدايتون أجندة سياسية معينة - وأنا لا أشك في هذا – ولكني لا أشك أبدا في إخلاص ووطنية الجندي الفلسطيني، وللتذكير، فإن عدد شهداء الأجهزة الأمنية خلال انتفاضة الأقصى قد فاق عدد شهداء فصائل المقاومة مجتمعة، وعندما كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح المدن كان أول من يتصدى لها هم أبناء الأجهزة الأمنية، ولمن يريد القفز عن ذاكرتنا الوطنية نذكّره كيف انهارت تجربة الدوريات المشتركة عند أول مواجهة في هبّة النفق الذي راح ضحيتها أكثر من مائة شهيد في غضون ثلاثة أيام أغلبهم من الأجهزة الأمنية، فإذا كان الموضوع تشكيك في وطنية الآخرين وفقدان الثقة بأبناء شعبنا والاعتقاد الجازم بأن كل ما يخطط له العدو سينجح لأنه قادر ومتفوق .. فتلك مسألة بحاجة إلى معالجة نفسية وليس إلى تحليل سياسي.

ونعلم أيضا أن الأجندة التي يعمل عليها "دايتون" لا تتوقف عند إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة بنائها، رغم أن هذا هو صلب الموضوع، وأن ما يسعى إليه دايتون هو إحداث تغيير جذري في ولاء منتسبي الأجهزة الأمنية وفي عقيدتهم العسكرية، وهي أمور في غاية الأهمية لأن العقيدة العسكرية هي التي تحدد العدو مباشرة، والعدو بطبيعة الحال في ذهن الفلسطيني هو الاحتلال، ولكن دايتون يريد أن يستبدل هذا العدو ليصبح ما يسميهم "الإرهابيين"، وحتى ينجح في هذا المسعى فقد استغل الثغرات الكبيرة التي سبقت ورافقت انقلاب حماس في غزة داعيا إلى الاستفادة منها، حيث كان مستقرا في ضمير ووجدان الجندي الفلسطيني أن العدو خارجي وليس داخلي، لذلك عندما هاجمته حماس أُسقط بين يديه، ولم يدافع عن موقعه وامتنع عن استخدام سلاحه، لأنه كان مشبعا بفكرة أن الدم الفلسطيني خط أحمر وأن ما يحدث عبارة عن صراع أخوة لن يطول كثيرا ...

وفي كل مرة يؤكد قادة حماس والناطقين باسمها أنهم يريدون أجهزة أمنية مستقلة مبنية على أسس وطنية مهنية، ولا تخضع لأي فصيل ولا تخدم أيديولوجيا حزبية، ويكون هدفها حفظ الأمن والنظام .. وفي حقيقة الأمر فإن هذا ما يعمل عليه دايتون بالضبط، وهو ما يريده كل فلسطيني، صحيح أن "دايتون" اعترف بأنه يعمل على تدريب جنود لا يسعون للقضاء على إسرائيل ولا حتى يريدون محاربتها، ولكن هذا لا يعيبهم، لأنهم جنودٌ في مؤسسة أمنية لها مهمات معينة ولديها إمكانيات محددة وتخضع لسلطة هي نفسها تخضع لاعتبارات سياسية وقانونية ولديها اتفاقيات دولية أقيمت بموجبها وعليها أنة تلتزم بها، وكل من يشارك في السلطة عليه أن يعي هذه الحقائق، ومن ناحية ثانية فقد اتفقت جميع الأطراف الفلسطينية أن مهمة هذه الأجهزة الأمنية يجب حصرها في إنهاء حالة الفوضى وفرض سيادة القانون وتوفير الأمن للمواطن الفلسطيني من الاختراقات الداخلية.

أما التصدي لمخططات الاحتلال وبرامجه التوسعية فيجب أن يكون بالمقاومة الشعبية الشاملة بكافة أشكالها، والدفاع عن النفس ضد الهجمات العدوانية التي تشنها إسرائيل يجب أن يكون مهمة فصائل المقاومة وكتائبها المسلحة، أما الأجهزة الأمنية فلا تستطيع ذلك وليس مطلوبا منها خوض معارك خاسرة وسفك دماء بلا طائل، لأنها ببساطة أجهزة مكشوفة بمواقعها وتجهيزاتها وأفرادها، وسبق لها أن دفعت الثمن غاليا في بدايات الانتفاضة عندما خاضت مواجهة غير متكافئة مع آلة العدوان الإسرائيلية أدت إلى تدمير مقراتها والقضاء على كل مقدراتها.

لا يخفى على أحد أن الأجهزة الأمنية التي أُنشأت مع بدايات تأسيس السلطة كان يطغى عليها الطابع الثوري والارتجالي، وفيها الكثير من الثغرات ونقاط الضعف، وأنها بحاجة ماسة للإصلاح، سيّما بعد أن تلقت ضربات قاسية من الاحتلال، وبعد أن مرت بظروف بالغة الصعوبة في أثناء الحصار حيث مضى على منتسبيها قرابة السنة والنصف دون أن يتلقوا رواتبهم، أما اليوم وفي ظل حكومة د. سلام فياض فقد اختلف الوضع كليا، حيث تنبهت هذه الحكومة إلى كل الثغرات والسلبيات التي كانت تعيق أداء المؤسسة الأمنية، وتنبهت إلى المخاطر الأمنية التي تمثلها نوايا حركة حماس في تكرار نموذج غزة في الضفة، أو حتى في إثارة القلاقل والاضطرابات من خلال خلاياها النائمة، ومن الطبيعي أن يلجأ أي نظام سياسي لمحاصرة ومراقبة خصومه السياسيين الذي يعبّرون سِرّاً وعلانية عن عدائهم لهذا النظام ونيتهم في إسقاطه، وأن يلجأ لقمعهم إذا لزم الأمر، ولا يوجد نظام سياسي على مر التاريخ شذ عن هذه القاعدة.

أولى خطوات الإصلاح التي لجأت إليها حكومة فياض هي التخلص من الحرس القديم وتشجيعهم على التقاعد المبكر، والاعتماد على الشبان الجدد، وليس خافيا على أحد أن هذه الخطوة تعني إزاحة تأثير وهيمنة فتح على المؤسسة الأمنية، فالكبار الذين تم استبعادهم هم كوادر فتح، والشبان الجدد تربطهم بفتح علاقات معنوية وعاطفية فقط دون أي ارتباط عضوي تنظيمي، ومن بقي من الجيل السابق تلقوا دورات مكثفة في مختلف مجالات العلوم الأمنية والسياسية والقانونية، أما التجهيزات والدعم المالي فقد أخضع مباشرة لوزارة المالية، وبذلك تكون الطريق معبدة للوصول إلى مؤسسة أمنية محترفة تتبع رئيس الحكومة فقط وتنفذ أجندته السياسية، واقتصرت علاقة فتح بالموضوع الأمني وما ينشأ عنه من قضايا اعتقالات ومداهمات من خلال "الرئيس" الذي يجمع بين رئاستي السلطة وفتح في آن معا، وباعتباره المرجعية السياسية والتنظيمية لوفد فتح الذي يتحاور مع حماس.

لم يكن إشراف دايتون على إعادة بناء المؤسسة الأمنية بدعوة من حكومة فياض بل هو أساسا قبل ذلك بمدة، وكانت أول خطة أمنية طرحها دايتون موجهة لحكومة الوحدة الوطنية التي كان يترأسها "إسماعيل هنية" الذي وافق عليها آنذاك، أما حكومة فياض فقد رغبت بالاستفادة من وجود دايتون، أي من خبرته العسكرية التي تتمناها أي مؤسسة أمنية من دول الجوار، والاستفادة من شهادته وتقييمه للأمن الفلسطيني في المحافل الدولية ولدى الجهات المانحة.

قد يحلو للبعض استخدام العبارات المثيرة وتوجيه الانتقادات وكيل التهم ... وقد يكون في ما يقولونه بعض الصواب، ولكن إذا أردنا التخلص من جلد الذات، ومن أمراض التعصب والتخوين، وحتى نكون أكثر موضوعية، ولا يكون كلامنا حق يُراد به باطل، دعونا نرى الصورة كاملة دون قراءة انتقائية وأحكام مسبقة، فإذا أردنا التخلص من "دايتون الأمريكي" في الضفة، لنتخلص في غزة من "دايتون القطري" و "دايتون الإيراني" و "دايتون الإخوان المسلمين"، ومن كل "الدايتونات" الذين جعلوا البعض يقدمون الولاء الحزبي على الانتماء الوطني، وجعلوا منهم مطية لأجنداتهم الإقليمية ومشاريعهم العابرة للقارات، الذين أقسموا بيمين الولاء لمن هم خارج حدود الوطن، والذين زرعوا في عناصرهم أن العدو الحقيقي هم أبناء الأجهزة الأمنية فصاروا يستعجلون قتلهم حتى يدخلون بهم الجنة، لنتخلص من كل الدايتونات ولنبني وطننا بأيدينا المتعاونة وقلوبنا النظيفة وبرامجنا المتحدة.


تموز – 09

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق