أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 26، 2010

فلسطينية العينين


كان الليل يسدل ستارته على الأرض، فتختبئ في حلكته حقول الحنطة وتحط أسراب الحمام وتهجع الأيائل، وتنام ملء العين في موطنها الأول، ويأتي "بَعْل" فيسقي أشجار اللوز وأزهار الأقحوان، ثم يذوي كخاطرة عابرة، الصمت هو الصوت الوحيد الذي يدوي في المكان، لأن الصمت كان شرطا لميلاد القصيدة، الفجر يتهيأ ليبدّد العتمة، فالصبّح زفرة الليل الأخيرة، وعمّا قليل سيفكّك السوادَ إلى ألف لون، ليقدم النهارَ على طبقٍ من بلور، البحر يعرف شاطئه تماما، ويعرف يافا وعسقلان، الموج يجيء من البعيد في رحلة البحث عن معنى فيبكي على سور عكا من التعب، حاملا معه أسرار البحار وتفاحا من الذهب، البر والبحر هناك صنوان لا يحتملان ثنائية التفسير، والشمس لا تبالي كثيرا بالحر أو انحباس المطر، لأن الله سلطها هناك لتظل علماً لفلسطين.


من أرض كنعان نبتت رموشك، كسنبلة باسقة، ومن سمائها تكحلت عيناكِ، ومن مائها صُقلت أنوثتك، فاشرأبّت وأطلّت عليَّ طاغية، كوريقات الحبَقِ نديةً، وكالرحيق صافية، كنت أخبئ دمي في أوردتك وأؤجل ما استطعت من شوقي، حتى ينام القمر فأُهدي لكِ الليلَ على سرير من الفُل، قبلكِ كان عمري بأكمله فكرة طارئة، كان اسمي بلا حروف وقصائدي تنقصها القافية، كنتُ قادما من الغيب وماضٍ نحو المستحيل، في بحرٍ بلا شطآن وصحراء ليس فيها سوى الكثبان، معك اخضرّت الحقول وانبجس من صوتي الرصاص وصارت حريتي قابلة للمسك باليدين، ومن فرط حبي للحياة رشحتني الأخبار للموت مرتين، وبعد رحيلكِ عدت وحيداً مع الريح في رحلة التيه الطويلة، حملت معي ما خفَّ من الذكريات، وحفنة من النجوم وسؤال معلق: من منا الذي سافر؟! فكلانا لاجئ.

في المنفى تلاقينا، رأيت في عينيك الوطن، نائما بين الجفون، وعلى صدرك خارطته كاملة، بكل بهائها وجمالها، تختزل التاريخ وتحكي عن زيتونة عَصَرها الرومان وعن حقولٍ ارتوت بالدم فأنبتت حنّون، صوتكِ كان قيثارة، وتغريد بلابل، فيه لهفة المشتاق ونداء الأرض للمطر، ذُبْتُ فيه فحمَلني إلى أرض الحنين، إلى بلاد تخبئ أوجاعها في سلال العنب، وتحت الوسادة وبين الكتب، بلاد أدمنت الحب والتطريز وزراعة العدس والريحان وإنتاج الحرب والشهداء وقصص المهاجرين والعائدين، بلاد سُيجت بالنزيف وملئت بالحواجز والسجون، بلاد هَزَمت جيوش الفاتحين والغزاة، وأخيرا هزمت نفسها أمام مرآة الجنون.

لستِ وحدكِ يا حبيبتي من كان نصرها المبين، نومة الشهيد، مئذنة تطل على المدى وخوابي الأديرة، بسمة الطفل وهو يلقي بالحجر، ضفائر الصبايا ودفاتر التلاميذ، أحلام من ضيعته المنافي، وأمل السجين، ولكني سأعترف بأنك كنت بطعم مختلف: عربية سمراء، كنعانية الدم فلسطينية العينين، باسقة كنخل العراق ومعطرة كوردة دمشقية، حلوة كزهر برية، وشهية كصباح مشمس، فكنتِ الخلود وكنت فلسطين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق