أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 11، 2010

نموذج بِلْعـينْ في المقاومة الشعبية

تحقيق: عبد الغني سلامه

ظن قادة "إسرائيل" بأنهم سحقوا الحلم الفلسطيني وأجهزوا عليه واحتفلوا بهذا الوهم مبكراً، ولكن الشعب الفلسطيني قدّم مرارا دلائل دامغة على أنّ هذا وهم مستحيل، وقدّم البشارة بعد البشارة على تحقيق النبوءة الخالدة بانتصار الدم على السيف، وغلبة الروح على القوة الغاشمة، وكانت "بلعين" واحدة من بين أبرز هذه الدلائل، حيث أعلنت رسالتها بوضوح: أن المستقبل لهذا الشعب وأن المستقبل هو وحده من يبكر بالقدوم.

بِلْعِينْ، قرية فلسطينية هادئة تسكن خاصرة جبلٍ توسّطَ المسافة بين يافا والقدس، تكدّست بيوتها على نحو متلاصق ومتناثر حتى وصلت السّهل، سكانها أقل من ألفي نسمة، تكثر فيها أشجار الصبر والزيتون والتين بأنواعه العديدة. تبدو القرية من بعيد ببيوتها الطينية العتيقة إلى جانب بعض البيوتات الحديثة وسط غابة من الأشجار منسجمة تماما مع بيئتها كما لو أنها لوحة زيتية مليئة بالألوان والتفاصيل المدهشة.


ظلّت بلعين قرية عاديّة، مسكونة بالحب، تودّع أبنائها كل صباح فتوزّعهم في شتى الاتجاهات ثم تعيدُهم آخر النهار. في الشتاء توقد الجفت والحطب وتتدفأ، وفي الصيف تكثر الأعراس. ترّحب بضيوفها بكرم لافت، وتصّد كل من يتسلل إليها بغتةً وأهلها نيام، وتحتفظ بسرّها الكبير والذي ستظهره على الملأ بعد حين، وتحديدا في هذا الزمن الصعب من تاريخ فلسطين الحديث والذي برز كنتوء مشوّه في مسيرة الكفاح الوطني عندما انشغلت بعض الفصائل في صراع طاحن على السلطة، وغرقت في حرب كلامية وتبادل للإتهامات.

فبينما كان شعبنا يضع يديه على قلبه ويبتهل إلى الله أن لا تنزلق الفصائل إلى مستنقع الإحتراب الداخلي، وكان العدو يواصل تنفيذ مخططاته بلا تشويش أو معوقات، أفصحت بلعين عن سرّها الدفين، وأظهرت عبقريتها بشكل مذهل، وأطلّت علينا كلوحة فنية على جدار متصدع، وبرزت كواحة عشب في قلب الصحراء، وأعلنت عن نفسها قصيدة في زمن الهذيان، وفرضت اسمها كبوصلة على مفترق طرق، فكانت بحق سيدة اللحظات المفعمة بحب الأرض، وجسدت بالفعل والعمل مقولة القائد والشاعر توفيق زياد: "الأرض والفلاح والإصرار أقانيم ثلاث لا تقهر، لا تقهر".

هذه هي " بِلْعـينْ " في كل مرة تُبْدع في العطاء والتضحية وتجترح أساليب جديدة في النضال وأشكال عبقرية في التصدي لجرافات الاحتلال، فمع كل يوم جمعة ما أن يصحو أبناء القرية الصغيرة حتى يتجدد موعدهم مع قوات الاحتلال، يتجمع الشبان قرب الجامع فيما يتوافد المتضامنون الأجانب ويتجمعون في منزل "أبو رحمة" الذي صار بمثابة "نزل للجند"، يتبادلون التحايا ويجددون العزم ويتشارورون في أمرهم وما هم فاعلون، وبعد انتهاء الصلاة ينطلق الجميع نحو الأراضي المهددة بالمصادرة وحيث أقام الاحتلال جداره العنصري، وتبدأ المواجهات، فيسطر أهل القرية سِفراً جديداً في سجل تاريخ المقاومة والفداء ضمن ملحمتهم المفتوحة على المدى الأحمر، فيما ينكشف شيئاً فشيئاً قناع إسرائيل الزائف، وهكذا، تنجح بِلْعـينْ وبجدارة في أن تصبح نموذجا للكفاح الشعبي وصورة حية لإرادة الشعب وعزيمته التي لا تخبو، نعم، نجحت بلعين لأنها لم ترفع سوى العلم الفلسطيني ولم تستخدم القنابل البشرية ولم تتبجح بالشعارات الرنانة والخطب العصماء، ولم تضع وقتها في الصراعات الداخلية ولم تقتحم معارك الفضائيات، نجحت لأنها قاتلت بالكلمة والحجر وبسواعد أبنائها وأسنانهم وإصرارهم على التمسك بالهدف، ولأنها رتبت أولوياتها بشكل سليم ووضعت الهم الوطني فوق أي اعتبار، فكانت نموذجا مصغرا لفلسطين في عطائها وكفاحها يستحق منا كل احترام، بِلْعـينْ بكفاحها السلمي الحضاري استقطبت المناصرين للقضية الفلسطينية من كافة أنحاء العالم وأبرزت الوجه الحضاري المشرق للشعب الفلسطيني وأعادت لكفاحه القوة الأخلاقية والصدقية التي فقد الكثير منها في زحمة الفوضى والفلتان.

واستطاع مواطنوها البسطاء حفر مأثرتهم الخالدة على مسلة التاريخ، وهم الآن لديهم قصة بطولة سيبقى أطفال أطفالهم يعيشون مجدها .. تحية إكبار وإجلال إلى بلعين.

المقاومة والمقاومة الشعبية

المقاومة هي رد فعل طبيعي عفوي يمارسه الشعب بكافة فئاته لرد الظلم ومواجهة العدوان والدفاع عن النفس ضد الاحتلال وللتعبير عن رفضه لسياساته وعدم الرضوخ له، وللمقاومة تجليات كثيرة وأشكال لا حصر لها، ومن الخطأ أن نحصرها في قالب محدد أو تحتكرها مجموعات مسلحة، ومن البديهي أن تكون أساليب المقاومة ومستوياتها منوطة بإمكانيات الشعب وقدرته على التواصل وتحمل تبعاتها، مع ضرورة ارتباط المقاومة بهدف سياسي محدد وواضح وقابل للتحقيق.

وطالما أن المقاومة تستدعي رد فعل الشعب بمجرد تواجد القوات الغازية على أرضه، وأن قانون المقاومة يحتاج لنضالات جماهيرية وشعبية لإنجاحها وتحقيق أهدافها، فإنه في ظل ظروف معينة يكون العنف ضروريا ومفيدا، وفي ظروف أخرى لا يمكن للعنف أن يؤتى ثماره، وإذا كانت معطيات المرحلة الحالية لم تعد تتيح ممارسة الكفاح المسلح بشكله المعهود، والواقع العربي لا يسمح بفتح جبهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، فإن ذلك لا يعني الاستكانة والاستسلام بأي حال، أو أن الشعب فقد خياراته التي طالما حرص المنظرون على حصرها بثنائيات فجة، فهنالك النضال الشعبي المدني بأشكاله العديدة، وهذا النموذج من العمل الجماهيري والشعبي ليس وليد المرحلة الحالية في التاريخ الفلسطيني، بل هو جزء من تاريخ البشرية كلها في نضالاتها المختلفة، ليس فى فلسطين وحدها ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية وحسب، بل وضد الظلم والقهر البوليسي والطبقي والقوى الرجعية.

وكان النضال الشعبي دائما أداة حقيقية فاعلة في الصراع ضد الاستغلال والديكتاتورية، ومقدمة للثورات الاجتماعية، والانتفاضات المسلحة، والذي أثبت جدواه غير مرة، فسكان "عكا" هم الذين تصدّوا لنابليون لا جيش الجزار، وأهل "رشـيد" هم من صمدوا أمام الجنرال "فريزر" بينما عجز عن ذلك جيش "محمد علي"، والمقاومة الشعبية في "بورسعيد" هي التي حمت الجيش الثالث بعد أن فُتحت "الدفرسوار"، وجماهير "لينينغراد" هي التي انتصرت على "النازيّين"، والمقاومة الشعبية السلمية هي التي حررت "الهند" من الاستعمار الإنجليزي وهي التي أطاحت بنظام الأبارتهايد ... والأمثلة كثيرة.

وبالنظر إلى واقع الشعب الفلسطيني في الظرف الراهن وتحديد مصادر قوته، وبتحليل ميزان القوى المختل بشكل فادح لصالح الاحتلال، فإن الحكمة تحتم عليه استثمار قوة ضعفه بحرمان العدو من إمكانية استغلال ترسانته العسكرية المتخمة بقوة تفيض عن الحاجة وجـرّه إلى الميدان الذي يتفوق فيه الفلسطيني، أي خوض نضاله الوطني بأدوات وأساليب مختلفة تجعل من قوة خصمه ضعفا، بالكفاح الشعبي وتركيز جهوده في المجالات السياسية والديبلوماسية على الساحة الدولية، وهذا يعني أن على الفلسطيني أن يُبدع - كما هو حاله دوما ومنذ أن فُرض عليه الصراع - أن يبدع في المقاومة الشعبية والمدنية بكافة أساليبها.

فقد قدم الشعب الفلسطيني نموذجا رائعا في المقاومة الشعبية إبان الانتفاضة الأولى أواخر العام 1987، والتي نجح فيها ومن خلالها في تحويل مشروع المقاومة من مشروع فصائلي يعتمد العمل العسكري، إلى عمل شعبي عارم ومنظم تمكن من إحداث تحولات نوعية عميقة في نهج المقاومة وأساليبها أثبتت نجاعتها، كما أحدثت المقاومة الشعبية تغيرات جوهرية في وعي العالم بالقضية الفلسطينية ونظرته تجاه إسرائيل، وبدأت تعمل في إحداث تغيرات في الوعي اليهودي نفسه في اطار المجتمع الاسرائيلي، وأسست جبهة عربية مساندة للنضال الوطني في المحيط العربي والاسلامي وحتى العالمي، ولو أن الانتفاضة الحالية استمرت في نهجها الجماهيري كما بدأته أول مرة وكما سارت عليه واحتفظت به بلعين، ولو كانت كل قرانا ومدننا كبلعين لما كان حالنا اليوم على هذا النحو من التعقيد والبؤس والفوضى.

ومع هذا، فإنه من الخطأ أن نعتبر أن بلعين هي فقط من أبدعت في المقاومة الشعبية، أو أنها من اخترع هذا الأسلوب الكفاحي، ولو تأملنا في أعداد شهداء فلسطين وظروف استشهادهم، أو في أسباب اعتقال عشرات الآلاف من الشبان لرأينا أن الأغلبية الساحقة من هذه الحالات إنما كانت تمارس أشكالا من النضال الشعبي السلمي، فالمدن والقرى الفلسطينية كلها قدمت أشكالاً عبقرية من النضال الشعبي بدرجات مختلفة وضمن ظروف متباينة، وكان غياب النهج والرؤية الاستراتيجية قد أفقد الإعلام فرصة التركيز على هذه النماذج وإبرازها على النحو الذي حظيت به بلعين.

كيف بدأت قصة بلعين ؟

قبل أن تصبح بلعين عنوانا رئيسا في افتتاحيات الصحف وخبرا عاجلا تتناقله الفضائيات، لم تكن حينها مختلفة عن بقية القرى الفلسطينية سواء في تعرض أراضيها للمصادرة أم في تصدي أهلها لسياسات الاحتلال ومخططاته، فقد سبق أن صودر قسم من أراضي القرية عام 1980 وأُقيمت عليها مستوطنة"ميتاتياهو" ، وبعد ذلك بعشر سنوات صودر جزء آخر لتٌقام عليه مستوطنة "كريات سيفر"، وفي ذروة العدوان الإسرائيلي عام 2002 إبان ما سمي بعملية السور الواقي أُقيمت مستوطنة جديدة سميت هذه المرة "ميتاتياهو الشرقية".

في هذه الفترة بالذات قرر شارون تنفيذ رؤيته للحل النهائي للصراع وفَرْضِها على أرض الواقع بقوة السلاح، فبدأ ببناء جدار الفصل العنصري متذرعا بحماية إسرائيل من خطر العمليات التفجيرية، ليكون هذا الجدار بمثابة حدود سياسية يسرق في طياته وتعرجاته الكثيرة خيرة الأراضي الزراعية وخزانات المياه الجوفية، ويقوّض قبل ذلك وبعده أي أساس موضوعي لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

ومن البديهي أن قيام هذا الجدار سيحرم كل القرى القريبة منه من مصادر رزقها وسيشتت العوائل ويجعل من حياتها أشبه بالكابوس، وإزاء هذا الوضع المزري كان الإسرائيليون يريدون وضع المواطنين أمام خيارين أحلاهما مرُّ: إما العيش في ظروف بائسة ذليلة سيمتد بؤسها ليطال أحفادهم، وإما الهجرة الطوعية وهذا أسوأ. وقد رفض المواطنون الخيارين، ولم يبقي أمامهم إلا خيار المقاومة الشعبية، والتي من خلالها يعبرون عن رفضهم للظلم وعن تشبثهم وتمسكهم بأرضهم، في هذه الأثناء بادر الأهالي بمساندة منظمات حقوقية وجهات رسمية من السلطة بالتحرك على الساحة الدولية للتعبير عن الموقف السياسي الرافض للجدار، ثم بعد ذلك نظّم أهل بلعين صفوفهم ووحدوها ولم ينتظروا دعماً أو مساندة من أحد، واتخذوا قراراهم بأن هذا الجدار أخطر من النكبة في تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عليهم، ومقاومته والتصدي له وإزالته لا تحتاج إلى فتاوى وشعارات.

وهنا بالذات تجلت عبقريّة بلعين: فقد بدأت المرحلة التحضيرية للمعركة من خلال تشكيل اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار، والتي سيكون لها الدور الأبرز في إطلاق شعلة المقاومة الشعبية من بلعين، لتمتد بعدها إلى نعلين ثم جيوس والخضر والمعصرة وأم سلمون وغيرها من القرى المهددة أراضيها بالمصادرة، وهكذا لم يمض وقت طويل حتى بدأ التنسيق والتعاون مع اللجان الشعبية لمقاومة الجدار في كل من بدرس وبيت لقيا ونعلين، ثم التنسيق واللقاء مع المتضامنين الدوليين وخصوصا حركة التضامن الدولية ( ISM)، وكذلك مع المتضامنين الإسرائيليين، بالإضافة إلى الإستعانة بمحامين وخبراء وطنيين للتعرف على طبيعة الوضع القانوني بالنسبة لحالة بلعين والآفاق المفتوحة أمامها. وتخلل ذلك أيضا زيارات العديد من المسؤولين في السلطة الوطنية الذين طُلب منهم التحرك سياسيا وعلى الساحة الدولية، وبالفعل بدء العمل على أرض الواقع، بدأ الفعل سريعا ليسبق عمل الجرفات على الأرض، فكانت الانطلاقة الفعلية مع اليوم الأول لعمل جرافات الاحتلال وهو يوم 20/2/2005.

وبعد بلعين بدأت القرى الأخرى المتضررة من الجدار والتي يتهددها غول الإستيطان بالتحرك، وأخذت تمارس أشكالا مشابهة لنضالات بلعين سواء في الفعاليات الميدانية أم في التحرك داخل الأطر القانونية والمحاكم، فهذه القرى استفادت من تجربة بلعين وتقوّت بها وكانت تنسق معها في كثير من الفعاليات، وبالفعل فلم يمض كثير من الوقت حتى أخذت تلك القرى تسطر نماذج إبداعية من المقاومة الشعبية، الأمر الذي دفع بالمتضامنين الأجانب ووسائل الإعلام للتحرك نحوها، كما بدأ مسئولون كبار من السلطة الوطنية بزيارتها وإن كان ذلك كله بدرجة أقل من بلعين، لذلك كان جنود الاحتلال يستغلون أي فرصة لغياب الإعلام للتنكيل بأهالي تلك القرى حتى لا تنجح في تكرار نموذج بلعين، وحتى لا تُعمّم التجربة على باقي القرى والمدن الفلسطينية.

عبقرية المقاومة أمام همجية الاحتلال

في البداية كانت التظاهرات الشعبية هى السائدة في فعاليات بلعين، حيث مشاركة الأطفال والشباب والشيوخ والنساء، وكانت حينها تجري بصورة يومية، ثم صارت مرتين في الأسبوع، إلى جانب استثمار المناسبات والأعياد الاجتماعية والوطنية، فكان هناك مسيرة للمرأة في يوم المرأة، وأخرى للأطفال في يوم الطفولة ، وثالثة للمعاقين في يوم المعاق ... ثم أصبحت الفعاليات أكثر تنظيما وإبداعا، فمثلاً باتت فعالية تربيط الزيتون عنوانا للابداع، حيث أقدم بعض المتظاهرون ومنهم متضامنين أجانب ومزارعين على التسلل ليلا وفي الصباح الباكر إلى حقول الزيتون وربط أجسادهم بأشجار الزيتون بواسطة سلاسل حديدية وأقفال كبيرة وذلك قبل وصول الجرافات صباحاً لاقتلاعها، وكان هذا كتعبير عن التصاق الإنسان الفلسطيني بأرضه وعن مدى عشقه لهذه الشجرة المباركة ولسان حاله يقول لجرافات الاحتلال: هذه الشجرة جزء منا فإذا أردتم اقتلاعها افعلوا ذلك ولكنكم ستقتلعونا معها فنحن متشبثون بجذورها، فيما راح آخرون يزجّون بإجسادهم في براميل حديدية ويقفلونها على أنفسهم ويضعونها في مواجهة الجرافات في محاولة منهم لمنعها من مواصلة عملها في قضم أراضيهم وتخريبها، ثم توالت الأفكار الخلاقة وتنوعت الأساليب بشكل أذهل الجميع، وعلى سبيل المثال فعاليّات الصناديق، والسجن والمشانق، والتوابيت وشواهد القبور والأفعى، والأسطوانة، والقبر الكبير، والزوايا والرايات السود والبالونات والطائرات الورقية ... الخ، والتي سيتم توضيحها أدناه.

وهذه الأساليب المبتكرة في النضال تعبّر رغم بساطتها عن إرادة الفلسطيني وعزيمته وإصراره في الدفاع عن أرضه، وتبين مستوى تحضر هذا الشعب أمام بشاعة ممارسات الاحتلال الذي لا يتورع عن استخدام أعنف الوسائل القمعية ضد مدنيين عزل يمارسون حقهم المشروع في الدفاع عن النفس، وتكمن أهميّة هذه الأساليب في تجددها المستمر وتغيّرها من حين لآخر وتنوعها المُدهش الذي يؤكد على تلقائية الفعل الشعبي الفلسطيني وبساطته من جهة وعلى ذكائه من جهة أخرى، فضلا عن دلالاتها الرمزية وقدرتها على التعبير بالصورة عما يريد أهل بلعين إيصاله للعالم، وما أثار قلق الاحتلال من هذه الأساليب أنها سلمية ولا تنطوي على عنف ولا يمكن وصمها بالإرهاب، وبالتالي فقد حرمت الاحتلال من سلاح خطير طالما استخدمه في معاركه الاعلامية حينما دأب على وصف النضال الفلسطيني بالإرهاب.

فعلى سبيل المثال حمل عشرات المتظاهرين علماً وطنياً كبيراً بطول أربعة أمتار وعرض مترين، وساروا به بإتجاه الجدار بينما أقدم أحد المتظاهرين وهو يرتدي زياً أسود ويحمل مقصاً ضخماً على قص العلم إلى نصفين، في دلالة رمزية للمقص والشخص الموشح بالسواد على أنه يمثل جدار الفصل العنصري الذي يقسم الأراضي الفلسطينية إلى قسمين، وفي مسيرة أخرى حمل المتظاهرون أكفانا وساروا بها على الأرض وقد كُتب على أحدها "الحرية" باللّغات الثلاث وعلى الآخر "الإنسانية"، وعلى الثالث "الأمل"، وآخر "المستقبل"، كدلالة على قتل الاحتلال لهذه القيم، وما أن وصلت المسيرة إلى موقع الحفريات حتى كانت أعواد المشانق في انتظار تلك الأكفان التي علقت عليها لتظهر كجثث معدمة على أعواد المشانق التي يشرع الاحتلال في إقامتها والمتمثلة بجدار الفصل العنصري، وبينما حمل الآخرون يافطات كُتب عليها كلمات كالأرض والحياة والشجر لتدل على تمسك الأهالي بهذه المعاني النبيلة.

وقدّمت بلعين نموذجاً آخر للتظاهُر والاحتجاج الشعبي، ففي إحدى التظاهرات شاركت عشرات النساء من دون رجال بهدف توجيه رسالة للجنود الاسرائيليين أن التظاهرة احتجاجية غير عنيفة وفي مسيرة ثانية شارك عشرات الأطفال من دون وجود أي شخص بالغ لحمل رسالة مماثلة.

ومن ضمن الفعاليات بناء مجسم خشبي لقبر ضخم وُضع على جوانبه ما يشبه الكفن الأبيض وفي داخل هذا القبر وضع مجسم رمزي لقرية بلعين مع يافطات تحمل أسماء الحارات والعائلات، في إشارة إلى أن الجدار هو بمثابة القبر الذي سيدفن بداخله القرية بسكانها وحاراتها ويقضي على مستقبلها، وفي مسيرة أخرى تم صنع مجسم من القماش لأفعى ضخمة بطول عشرات الأمتار وتم حشوها بأنواع مختلفة من قطع الملابس والأقمشة والقطن حتى بدت كثعبان ضخم يتلوى ويفتح فكيه على مصراعيهما، كدلالة على الجدار الذي يتلوى في الأرض الفلسطينية ويبتلعها.

وبتنوع مدهش آخر، تم جلب عشرات من قطع الفلين المقوى باللون الأبيض وهي على شكل شواهد للقبور، ثم نُقش على كل شاهد منها اسم لأحد أبناء القرية مع عبارة "الفاتحة"، ثم وزعت هذه الشواهد في الأرض التي تجري عليها المواجهات وبالقرب من الجدار فبدت كما لو أنها مقبرة جماعية، وفي ذلك رسالة من أهل القرية للعالم بأنهم مستعدون للموت مقابل حرية هذه الأرض التي غرسوا أنفسهم وشواهد قبورهم فيها، وفي مسيرة أخرى صنع الأهالي عشرات من مجسمات خشبية لأعواد المشانق وصفّوها بشكل منتظم على مقربة من الجدار وعلى كل عود مشنقة وضعت يافطة تحمل اسم أحد الشبان، في دلالة رمزية على استعداهم للتضحية بحياتهم في سبيل حريتهم وفي سبيل هدم هذا الجدار. وفي فعالية أخرى قام كل المشاركون في المسيرة بحمل أكياس صغيرة من الخيش مملوءة بأنواع مختلفة من البقوليات كالعدس والفاصوليا والفول والقمح، ثم نثروها في الهواء وفي وجه الجنود وأمام كاميرات الصحافة في إشارة لرفض الأهالي المعونات الغذائية التي كان يراد منها تعويضهم عن أراضيهم وتكرار صورة اللجوء التي أعقبت النكبة، وفي ذلك رفض كل أشكال التعويض ورفض للعودة إلى وضع اللجوء.

وذات مرة قام الأهالي ببناء مجسمات للمستوطنات مصنوعة من الخشب ومغطاة بالقرميد الأحمر على شكل بيوت متنقلة، ثم حملوها على رؤوسهم وساروا بها حتى عبرو الجدار فما كان من الجنود إلا أن منعوهم من التقدم ثم انهالوا بالضرب بالهراوات وبأعقاب البنادق على هذه المجسمات حتى حطموها، وبعد ذلك رفع الأهالي يافطات باللغة العبرية كُتب عليها: أنكم ستحطمون مستوطناتكم الحقيقية وبأيديكم كما فعلتم للتو بهذه الهياكل، وقد جرت هذه الفعالية بالتزامن مع إنسحاب إسرائيل من غزة حيث قام الجيش حينها بتفكيك جميع المستوطنات التي أقيمت على القطاع. وفي مرة أخرى صنع الأهالي مجسما خشبيا للجدار وتركوه على الأرض وكتبوا عليه أنكم ستفككون هذا الجدار الكرتوني اليوم ولكنكم ستفككون الجدار الحقيقي في نهاية المطاف ومهما طال الزمن.

وفي إحدى المسيرات وبينما كان الضابط الإسرائيلي المسؤول يصدر أوامره بقمع المتظاهرين أصيب مباشرة بحجرٍ في عينه ففقدها كليا، وبعد أن خرج من المستشفى قرر العودة للقرية من أجل الإنتقام معتبرا أن أهالي بلعين قد أصابوه بإعاقة دائمة في نظره، وفي المقابل قام الأهالي بتنظيم مسيرة اشترك فيها عشرات الشبان الفلسطينيين "المعاقين" وجميعهم أصيبوا بإعاقات من جراء جرائم جيش الاحتلال، وقالو لهذا الضابط وهم على كراسيهم المتحركة وبأرجلهم المعدنية: أنظر ماذا اقترفت أيديكم، وكم من الإعاقات تسببتم لنا ولغيرنا ؟!

ومن أشكال الاحتجاج الأخرى رفْعُ أعلامٍ لدول فاعلة في المجتمع الدولي للفت إنتباهها لما يجري في فلسطين، وأيضاً تكميم الأفواه بأشرطة لاصقة تعبيراً عن إدانتهم للصمت الدولي، واستخدام أسلوب الجدار الحديدي الذي يمضي على جثث أهل البلاد عبر وضع مجسم للجدار فوق أعناق المشاركين. وفي إحدى المرات، نظّم أهالي القرية مسيرة أعلام وُزِّع فيها أكثر من 1500 علم فلسطيني، في رسالة موجهة إلى الفصائل المتصارعة على السلطة لإبراز قيمة العلم الوطني كرمز للتوحد، ومن الأفكار التي طبقها الأهالي في المظاهرات إلقاء روث الحيوانات والبيض على الجنود، إضافة إلى استخدام دروع حديد على الصدر للوقاية من الرصاص المطاط، واستخدام مرايا كبيرة لتوجيه أشعة الشمس على عيون الجنود وإرباكهم ومنعهم من توجيه اسلحتهم نحو المتظاهرين.

وفي إحدى المسيرات رفع لمشاركون إلى جانب الأعلام الفلسطينية مجسماً ضخما لميزان كبير ذو كفتين، وُضعت في إحدى كفتيه إسرائيل وفي الكفة الأخرى العالم، وقد رجحت الكفة الأولى في إشارة إلى أن هذا الكون لا عدالة فيه ولا يوجد تطبيق للقانون أيضاً، حيث ضربت إسرائيل القوانين والقرارات الدولية بعرض الحائط، ولم تنصع للقرارات الدولية وخصوصاً القرار الصادر عن محكمة لاهاي بعدم شرعية بناء الجدار.

وفي تحدي شجاع لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين وبتوظيف ذكي لما تدعيه إسرائيل بأنها "دولة قانون", قامت مجموعة من الشبان في ليلة ماطرة عاصفة من شتاء العام 2005 صادفت احتفالات العالم بأعياد الميلاد، بالتسلل تحت جنح الظلام إلى الأرض المهددة بالمصادرة وبحهود حثيثة وبتعاون مثمر مع المتضامنين الأجانب تمكنوا من بناء بيت صغير عبارة عن غرفة من الطوب أطلق عليه "مركز بلعين للنضال السلمي المشترك"، وفي صبيحة اليوم التالي فوجئ الجيش بوجود الغرفة فقررت هدمها فتصدى لهم الشباب، وبجهود المحامين استطاعوا منع الهدم باعتبار أن بيوت المستوطنة المجاورة هي أيضا غير قانونية ولم تحصل على ترخيص، وأمام هذه الحجة لم يكن أمام المحكمة الإسرائيلية إلا أن وافقت على مضض وأمرت بإبقاء الغرفة بل ومنحها ترخيص، ثم صارت هذه الغرفة تستخدم لتنسيق الفعاليات النضالية ومبيت الشبان فيها لحراسة الأرض، وهذا الأمر ظل مبعث قلق واستفزاز لسكان المستوطنة الذين أعلنوا حالة الإستنفار حيث كانت الغرفة تبعد فقط 150 متر عنها، وما كان يستفز المستوطنين هو حفلات الشواء التي يقيمها الأهالي في باحة الغرفة والإحتفال بأعياد ميلاد المتضامنين أو بمناسبة شفائهم من الإصابات وكذلك حضور مباريات كأس العالم، ومن الجدير بالذكر أن هذه الغرفة ما زالت صامدة في مكانها حتى اليوم.

واستعملت "بلعين" أيضا السعادة كسلاح في وجه المحتل: إيمان ومنصور فلسطينيان من الناشطين ضد الجدار تعارفا خلال المسيرات التضامنية ثم قررا الزواج ولكن بطريقة مختلقة. ولأن أسعد لحظات حياة الزوجين هي لحظة ارتباطهما معا، فقد قررا أن تكون هذه اللحظات في مكان وزمان مختلفين لتكون سعادتهم غامرة لمن أحبهم وقاهرة لمن كرههم، وأقيم العرس قرب الجدار للتعبير عن الإصرار على الحياة، ونُظّمت زفة العروسين من وسط القرية وانطلقت بمشاركة الأهالي وحضور حوالي 300 متضامن أجنبي وإسرائيلي باتجاه الجدار وهم يغنون أغاني العرس الفلسطيني التقليدي، وحمل بعض المشاركين في الزفة الأعلام الفلسطينية فيما وَضَعَت العروس فوق فستانها الأبيض علما فلسطينيا وسارت أمام المتظاهرين إلى جانب عريسها منصور، وما أن اقتربت الزفة من الجدار حتى واجهتهم أعداد كبيرة من الجنود الاسرائيليين الذين منعوهم من الاقتراب من الجدار ثم قاموا باطلاق كثيف للغاز المسيل للدموع والأعيرة المطاطية، وقال العريس منصور لوكالة فرانس برس "أردنا من حفل الزفاف هذا أن نرسل رسالة إلى العالم مفادها بأننا شعب يبحث عن الحياة رغم الجدار والحصار".

وبلعين أيضا استخدمت الموسيقى والفن والمسرح ضمن فعاليتها في مواجهة الاحتلال، فاستقدمت فرق موسيقية محلية وعالمية وأقامت حفلاتها قرب الجدار فراحت وكأنها تضرب بألحانها المختلفة جدار الصمت بقوة، ولكن حتى في وجه الموسيقى كان الجندي الإسرائيلي يصوّب بندقيته المحشوة بالرصاص، فيما يصوّب عازف أجنبي غيتاره الغني بالأوتار مستهدفاً القلوب.

واستخدمت بلعين كذلك البالونات، حيث طير المشاركون مئات البالونات الملونة وخاصة بألوان العلم الفلسطيني وقد كُتب عليها شعارات تدعو لهدم الجدار وإقامة السلام العادل، وكذلك طير الأهالي طائرات ورقية من جميع الأشكال والألوان وقد كتب عليها شعارات تدعو لإنسحاب الاحتلال وللتعايش السلمي دون تمييز وقهر، ولعل البالونات والطائرات الورقية من أكثر أشكال النضال السلمي رقة حيث أنها تحاكي ألعاب الأطفال، ولكن هذا النمط من أشكال الاحتجاج كان يغيظ الجنود الذين كانوا يردون على البالونات بقنابل الغاز !

من الوسائل النضالية المبتكرة كذلك "الصناديق"، وهي على شكل زنزانة سجن ويتم تحضيرها بسرعة بطريقة فنية وإبداعية خلال 10 دقائق وتُركب بصورة محكمة وقوية مثلما تركب قطع الليغو، ثم يحشر المواطنون أنفسهم داخلها ولا يكون أمام من بداخلها أي خيار غير تلقي الضربات. ولأن هذه الصناديق يتم توزيعها في ميدان المواجهة وتسبب إعاقة لعمل جرافات الاحتلال يقوم الجنود باستخدام مقصات ضخمة ومواكن خاصة لقص الحديد وإجبار من بداخلها على الخروج. ويقول عبد الله أبو رحمة في هذا الموضوع أن الشباب الذين كانوا داخل الصناديق تضرروا من الناحية الجسدية، ولكن كان لا بد من التضحية لمنع وإيقاف بناء الجدار، وفي إحدى المرات قام أحد الشبان بالتعلق بالرافعة الضخمة التي أحضرها جيش الاحتلال للمساعدة في بناء المستوطنة، ثم تسلق الذراع الحديدية حتى أعلاها الأمر الذي عطل عملها بالكامل، حيث عجز الجنود من الوصول إليه فيما بقي هناك صامدا أكثر من ستة ساعات، وفي النهاية أجبره الجنود على النزول واعتدوا عليه بالضرب، ولكنه في النهاية نجح في إيقاف الإستيطان ليوم كامل.

ومن النماذج البارزة في مسيرة بلعين الأسبوعية استخدام الفن التشكيلي، من خلال لوحات فنية تعبر عن قضية بلعين وقصتها الكفاحية رسمها فنانون فلسطينيون ونشطاء أجانب، وإلى جانب أهيمتها الرمزية فإن هذه اللوحات تعمل على توثيق اعتداءات الاحتلال بالصورة الحقيقية، ويحمل المتظاهرين بعضاً منها في المسيرات الاحتجاجية، واللافت في الموضوع أن معظم هذه اللوحات تم نسجها وتشكيلها بأدوات الاحتلال الإسرائيلي المستخدمة ضد الفلسطينيين كالرصاص وقنابل الغاز وغير ذلك.

رد فعل الجيش الإسرائيلي:

كما أبدعت بلعين في أشكال التعبير والاحتجاج، رد الجيش الإسرائيلي بوسائل شيطانية في القمع والتنكيل، فمنذ اللحظة الأولى لبدء المعركة قام بقمع الفعاليات ومنع المتظاهرين من الاقتراب من الجدار، وقد استخدم العديد من الوسائل لثني المتظاهرين عن مواصلة طريق نضالهم. في البداية استخدم العصي وأعقاب البنادق لضرب المتظاهرين بصورة عنيفة ومؤلمة، ثم طوّرَ أساليب قمعه تدريجيا بدأها باستخدام الغاز بأنواعه، إذ أن الغاز التقليدي المسيل للدموع لم يشف غليل جلاوزة الاحتلال فاستخدموا أنواعا سامة تحدث تشنجات لكل من يستنشقها وأخرى أشد خطورة منها ما هو محرم دوليا ومنها ما يخلف آثارا صحية شديدة الخطورة على المدى البعيد، ويستخدم الجيش قاذفات كبيرة لإطلاق هذه القنابل تطلق 30 قنبلة غاز دفعة واحدة مغطية مساحة واسعة تزيد على الدونمين، ما يؤدي إلى إلحاق أذى أكبر بالمتظاهرين الذين لا يستطيعون مغادرة منطقة الغاز لفترة طويلة. ولو تأملنا في عدد قنابل الغاز التي انهمرت على القرية خلال الفترة الماضية والتي تجاوزت الآلاف - كما أكد عبد الله أبو رحمة الذي يقوم بتجميعها كدليل على الإرهاب الصهيوني - فإن النتيجة التي يجب أن نتوقعها هي أنواع خطيرة من السرطانات ستظهر على الأجيال القادمة من أهل بلعين تتحمل مسؤوليتهم سلطات الاحتلال.

وقد أجرى ناشطو سلام اسرائيليون بحثاً عن تكاليف قمع التظاهرة الاسبوعية في قرية بعلين وتبين لهم أن الجيش الاسرائيلي يتكبد أسبوعيا 50 ألف دولار ثمن أدوات يستخدمها في قمع المتظاهرين من قنابل غاز ورصاص مطاط ووقود للسيارات العسكرية. وعادة ما يستخدم الجيش في سبيل تحقيق أهدافه كل ما يخطر بباله من أساليب قمع وبطش ضد المتظاهرين، فهنالك مثلا قنابل الصوت بأنواعها والتي تقض مضاجع السكان وترهبهم خاصة الأطفال منهم، والرصاص المعدني المغلف بالمطاط بأنواعه والذي هو في حقيقته تحايل على القانون الدولي، فالرصاص المطاطي قد يسبب الموت إذا ما أطلق من مسافة قريبة، وقد أصيب أكثر من 600 مواطن بهذا الرصاص منهم إصابات حرجة وخطيرة وحالات موت سريري، ومن وسائل الاحتلال الأخرى استخدام رجل آلي ليقوم بقمع المتظاهرين وإطلاق النار بشكل عشوائي على كل من يقترب من موقع بناء الجدار دون الحاجة لتواجد الجنود هناك.

ومع استمرار انتفاضة بلعين وفشل جيش الاحتلال في ثني المناضلين وردعهم، شَرَع باستخدم أسلحة جديدة أخرى قد تكون أكثر فاعلية مثل القنابل الاسفنجية التي تلتصق بالجسم وتسبب آلاما مبرحة ورضوضا كبيرة. والكرات الملحية وهي كرات صغيرة مليئة بمسحوق الغاز تصيب الأفراد، وأكياس الكرات الحديدية وهي كيس خيشي صغير يحتوي على نحو مئة كرة معدنية موجهة ضد الافراد أيضاً. والسّلاح الكهربائي وهو عبارة عن كرات معدنية تصيب المتظاهرين بصدمة كهربائية. وأكياس الفاصوليا وهي عبارة عن قذائف صغيرة تشبه حبة الفاصوليا في الشكل والحجم ولكنها بمجرد أن تصيب الفرد تلتصق بجلده وتبدأ بالذوبان مخلفة مكانها إحمرارا وحكة وآلاما شديدة. وخراطيم المياه الزرقاء التي كان يبدو للعيان أنها كما تُستخدم في أوروبا، ولكنها في بلعين ممزوجة بالغاز السام وتترك آثارا على الجسم والملابس لمدة طويلة وتُشعر من يتعرض لها كأنها مياه نار سكبت عليهم. واستخدم الجيش أيضاً مكبرات صوت تصدر رنينا مزعجا وتسبب طنين في أذني من يسمعها من المشاركين في المسيرات بحيث لا يستطيع النوم ليلا من شدة الإزعاج لأنها تحدث تشويشا في المخ وتؤثر على التوازن. واستخدم الجيش أيضا أسلوب الروائح الكريهة وهو سلاح لم يعهدوه من قبل وهو عبارة عن مياه نتنة لا تزول رائحتها عن الملابس، ولما راح الأهالي يبحثون عن سر النتانة التي لا تزول، وجدوا أن اسرائيل طورت سلاحا جديدا ضد المتظاهرين عبارة عن تركيب كيماوي ينتج رائحة حيوان الضربان الكريهة، وكانت الفكرة الأكثر قبولا لمواجهة مياه الضربان هي ارتداء ملابس قديمة غير صالحة للبس او تغطية الجسم بأكياس بلاستيكية.

واستخدم الجيش أيضا العقاب الجماعي لأهل القرية، ووضْع الحواجز وحصار القرية ومنعْ المتضامنين الإسرائيليين والدوليين من الوصول إلى القرية وخصوصا يوم الجمعة، وفرضْ حظر التجول على السكان ومنْعِهم من الحركة فضلا عن المداهمات الليلية المستمرة، وكذلك إعلان القرية منطقة عسكرية مغلقة وتوزيع البيانات التي تحث السكان على عدم المشاركة في المسيرات وعدم الخروج من منازلهم في يوم الجمعة.

بالإضافة للحرب النفسية ونشر الإشاعات الهدّامة التي تحط من العمل الشعبي وقادته، تقوم سلطات الاحتلال بنشر القوات الخاصة وما تعرف باسم المستعربين بين صفوف المتظاهرين، ومحاولتهم القيام بأعمال عنيفة، الهدف من وراءها تخريب المظاهرة حتى يجد الجيش مبررا لاستخدام العنف ضد المتظاهرين واعتقال الناشطين. ولكن جميع هذه الوسائل وباعتراف بعض قادة الجيش الإسرائيلي لم تُجْدِ نفعاً، ولم تُثنِ المتظاهرين عن مواصلة نضالهم، فأهالي بلعين ومتضامنيهم من اللحظة الأولى وضعوا نصب عيونهم هدفا مازال مرسوما أمامهم، وهم لا يرون غيره: هدم الجدار ومستوطناته، وحرية استخدام الأرض والعمل فيها والحركة عليها بحرية وأمان، فرغم الحصول على قرار محكمة يقضي بذلك إلا أن المعركة مازالت مستمرة حتى يُهدم الجدار بصورة فعلية.

دور المتضامنين الأجانب

القضية الفلسطينية ومنذ أن تفجر الصراع على هذه الأرض ظلت قادرة على استقطاب المتضامنين والمتعاطفين معها من كافة بقاع المعمورة، لعدالتها وشرعية مطالبها، وإن تسبَّب - مع الأسف - سوء أداء البعض واستمرار حالة الانقسام والتشرذم بإلحاق الضرر بالقضية وبصورتها النقية، إلا أن بلعين كنموذج للمقاومة الشعبية السلمية قد أعادت للقضية بريقها وأُلْقها وقدرتها على جذب الأحرار والشرفاء والمتضامنين الدوليين الذين تهافتوا للوقوف إلى جانب الفلسطينيين في كفاحهم العادل، وساهموا أيضا بصورة كبيرة في المشاركة في الفعاليات المختلفة، كما ساهموا في تحريك القضية وإثارة الرأي العام العالمي ونشر الرسالة على مستوى أوسع وبصورة أسرع. فمثلا كان للمتضامنين من قوى السلام الإسرائيلي مثل: "غوش شالوم"، "تحرريون ضد الجدار" وحركة "التضامن الدولية" دورا هام في نقل المعركة إلى ما وراء الجدار، أي إلى داخل المؤسسات الإسرائيلية نفسها، وكذلك تمكنوا من الكشف عن عمليات تزوير قام بها مجموعة من المنتفعين كرئيس مستوطنة "مودعين عليت"، وشركات البناء "غرين بارك"، "وحفتسيبا"، وبعض الموظفين في الأدارة لمدنية، حيث أنهم قاموا ببناء مستوطنة "ميتاتياهو الشرقية"، دون الحصول على ترخيص بذلك من حكومتهم، فهم استغلوا عمليات الاجتياح التي تعرضت لها الضفة الغربية عام 2002-2003، وانشغال الفلسطينيين بذلك وخوفهم من الاقتراب من تلك المواقع، حيث كانت شركات الحراسة تطلق النار على كل من يحاول الإقتراب أو التواجد هناك.

وقد كان رد بلعين على هؤلاء أن وضع الأهالي بيتا متنقلا في الأراضي المصادرة ليصير مركزا للنضال المشترك لكل من يناهض الاحتلال من فلسطينيين وأجانب وإسرائيليين، وقد نجحت هذه الخطوة وبمساعدة المحامي في الحصول على قرار ايقاف العمل والتوسع في مستوطنة "ميتاتياهو الشرقية"، وقد استخدم هذا المركز لاحقا للاجتماعات والمحاضرات للشرح عن الجدار وتنسيق المظاهرات.

وتكمن أهمية وجود المتضامنين الأجانب إلى جانب الدور الإعلامي الكبير في فضح ممارسات العدو القمعية وفي شرح عدالة المطالب الفلسطينية، في أن هؤلاء قادمون من بلدان مختلفة أغلبيتهم من أمريكا وكندا وأوروبا، ( وأيضا من داخل إسرائيل ). وبلدان وحكومات وشعوب هؤلاء الشبان لا تسمح بأن يمسهم سوء أو أن يلحق بهم ضرر جسدي، وحتى لا تسيء إسرائيل لعلاقاتها مع تلك الدول وحتى تحافظ على صورتها الزائفة في الإ علام الغربي، فإنها تتجنب قدر الإمكان ضربهم أو قتلهم، ومع ذلك فقد قُتل العديد منهم وأصيب العشرات بجروح وكدمات واستنشاق غاز وتعرضوا لمضايقات كثيرة.

وبفضل شجاعة هؤلاء المتضامنين ومثابرتهم وفهمهم لقواعد اللعبة فإنهم غالبا ما ينجحون في تخليص شبان فلسطينيين من الاعتقال أو حمايتهم من القتل أو في منع جنود الاحتلال من استخدام أساليب محرمة في القمع، ويساعدون أيضا في تمكين الفلسطينيين من الوصول إلى مناطق خطرة أو دخول أراضيهم الزراعية أو في إيصال رسائلهم المباشرة لقادة الاحتلال، وفي هذا السياق فان المتضامنين يقسمون أنفسهم إلى أقسام عدة ويوزعون جهدهم على أكثر من صعيد وفي أكثر من منطقة. وعادة ما يبقى في القرية بحدود العشرين متضامنا يبيتون في شقق يوفرها لهم الأهالي، كما هو الحال في منزل عائلة "أبو رحمة". وأهمية تواجد هؤلاء المتضامنين الدائم في قرى المواجهة هو للوقوف على ممارسات الاحتلال القمعية كالمداهمات الليلية وإساءة استخدام السلطة والاستخدام المفرط للقوة، خاصة في حالة غياب الإعلام وانعدام الرقابة، وأبرز مثال على ذلك هو فضح الجندي الذي قام بضرب المناضل محمد الخطيب من بلعين بشكل وحشي في أيلول 2009.إذ أنّه نتيجة للحملة الإعلامية التي نظمتها حركة المتضامنين والأهالي فقد أصدرت المحكمة الإسرائيلية حكما بالسجن 12 عاما على ذلك الجندي المعتدي.

وهناك مجموعات تتوزع على القرى الأخرى كنعلين والمعصرة وجيوس وغيرها وأحيانا يذهبون إلى الخليل أو نابلس وجنين، أو أيٍ من مناطق التماس، وقد كان لهم دور بالغ الأهمية عندما قدموا للمشاركة والتضامن مع الشهيد ياسر عرفات ايام حصاره في المقاطعة، وعندما زاروا مخيم جنين ورفح، ومن بين أهم الأدوار التي يقومون بها هو مساعدة الأهالي في قطف الزيتون خاصة في القرى المحاذية للجدار أو القريبة من المستوطنات التي يتعرض أهاليها لإرهاب المستوطنين وحيث يقف جنود الاحتلال متفرجين على اعتداءاتهم على السكان ومنعهم المزارعين من جني ثمارهم.

تطور خطير في الموقف الإسرائيلي

في العام 2009 – أثناء إعداد هذا البحث - وبعد مرور أربع سنوات على انتفاضة بلعين، ونظرا لما باتت تعنيه من رمزية للكفاح الشعبي، وما تُمثّله من نقطة جذب للتعطاف الدولي، وما تعنيه من مثابرة وإصرار أفقدت إسرائيل أعصابها بعد أن كشفت صورتها المزيفة، اختلف الوضع وبشكل خطير في كيفية تعامل إسرائيل معها، حيث سلمت الشرطة الإسرائيلية ملف بلعين بأكمله لجهاز المخابرات الاسرائيلية والذي تسلم أيضا ملف أمن الاستيطان وأمن الجدار من الجيش.

وما أن تسّلمت المخابرات هذا الملف حتى قامت مباشرة بوضع سياسة جديدة للتعامل مع أنشطة الكفاح الشعبي الهدف منها القضاء على ظاهرة بلعين بأي ثمن وبأي شكل حتى لا تمتد عدوى المقاومة الشعبية إلى بقية القرى والمدن الفلسطينية وحتى لا يُقال أن بلعين كسرت شوكة إسرائيل وأذلت هيبتها، وبالفعل بدأت المخابرات الإسرائيلية بوضع خطط وتنفيذ عمليات اعتقال ضد النشطاء الميدانيين وضد هيئاتهم القيادية، فاليوم هناك عشرات الشباب في المعتقلات الإسرائيلية (منهم 18 طفلا تحت سن السادسة عشر). كما ويَقبَع نصف اللجنة الشعبية تقريبا في السجن، والبقية إما مطاردة وإما مهددة بالإعتقال في أي لحظة، إضافة إلى فرض التوقيع على تعهد لكل معتقل بعدم المشاركة في الأنشطة الأسبوعية بكفالة قدرها 10 آلاف شيكل .

إن هذه المعطيات تشير بوضوح إلى استهداف بلعين من قبل جيش ومخابرات الاحتلال، لكسر هذا النموذج المتألق في سماء العمل الوطني، وإطفاء هذه الشمعة المتقدة، الأمر الذي يضع في أعناق كل أطراف الحركة الوطنية وكل المؤمنين بالمقاومة الشعبية - أمانة الحفاظ على بلعين كنموذج يُحتذى للعمل الكفاحي، ولجعلها تشتعل أكثر فأكثر كرمز للكفاح لا بد من تعميمه.

دور السلطة الوطنية

الدعوة لديمومة" المقاومة الشعبية" لأهالي بلعين ونعلين، هو تعبير عن إرادة سياسية فلسطينية شعبية تلقى مساندة رسمية، وهو أمر يمكن استشفافه بسهولة من خلال الحضور شبه المنتظم لرموز السلطة والحكومة في مواسم التظاهر والاعتصام الأسبوعية على مقربة من الجدار، ومن خلال أشكال الدعم المادي والمعنوي والتشجيع لهذا النمط من المقاومة.

في نيسان/ إبريل 2009 انعقد مؤتمر بلعين الدولي الرابع للمقاومة الشعبية "دورة الشهيد باسم أبو رحمة" بمشاركة شعبية واسعة حيث تجاوز الحضور عدة آلاف من ضمنهم مئات من الشخصيات الأممية الإعتبارية، كما تميز المؤتمر بحضور رسمي على رأسه ممثل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أبو مازن، ورئيس وزراء السلطة الدكتور سلام فياض، وأعضاء من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وأعضاء من المجلس التشريعي، وقادة وممثلي القوى والأحزاب الفلسطينية وأبرزهم د. مصطفى البرغوثي أمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية وممثلين عن الجبهة الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب وقادة العمل الشعبي في الضفة الغربية، وقد تمكن المؤتمر من توحيد شطري الوطن من خلال مشاركة أهالي قطاع غزة عبر الفيديوكونفرنس، إضافةً إلى مشاركة وفود دولية من الناشطين من أجل السلام من كل من فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، وايرلندا، وبريطانيا، وكوبا، وسويسرا، والولايات المتحدة الأمريكية، وجنوب إفريقيا، ونشطاء من حركات السلام الإسرائيلية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.

ونقلا عن وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" قال رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض للصحفيين بعد صلاة الجمعة في مسجد قرية بلعين "أنا دائما سعيد بوجودي مع ابناء شعبنا في بلعين وخاصة في هذا اليوم في الذكرى السنوية الرابعة لانطلاق الحملة الشعبية لمناهضة الجدار والاستيطان"، وأضاف: "بلعين لها رمزية خاصة ... على درب النضال الشاق نحو الحرية والاستقلال بكل ما تمثله من إرادة صلبة للبقاء على هذه الأرض وهي محطة هامة على طريق دحر الاحتلال لإنهائه."

ولدعم صمودها فقد تلقت القرية دعما ماديا من قبل مجلس الوزراء قيمته مليون دولار لإعمار القرية وخصوصا في مشاريع البنية التحتية، كبناء جدر استنداية وتعبيد طرق وبناء مدارس ومركز للدفاع المدني ومستوصف صحي .. وبالفعل فالمشاريع التي تم تنفيذها أو التي ما زالت قيد التنفيذ ساهمت في رفع معنويات الأهالي وتعزيز شعورهم بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وفي هذا السياق حصلت اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار على جائزتين مهمتين على مستوى الوطن وهما: جائزة فلسطين الدولية للتمييز والابداع 2007 وقيمتها 10 آلاف دولار عن فئة التجربة المميزة، وجائزة ياسر عرفات للإنجاز 2008 وقيمتها 25 ألف دولار، وقد تم تخصيص ريع هذه الجوائز لصالح نضالات القرية وتغطية مصاريف المحاكم والمحامين.

بلعين بعد أربع سنوات على انتفاضتها

لن ندّعي أن بلعين قد أنجزت غايتها وحققت نصرها الكامل، فالدرب طويل والمعركة مفتوحة .. ولكن ما من شك أن كفاح بلعين الشعبي قد أثمر عن تفكيك جزء من الجدار وانحساره عن أرضها، وهي مازالت مصممة بإرادة أهلها، ودعم وإسناد شعبنا وقواه ومؤسساته، وكل القوى المتضامنة معها من أجانب وإسرائيليين، على مواصلة المشوار والنضال حتى ينهار ويتفكك جدار الفصل العنصري.

بلعين فقدت شهيدا واحدا خلال أربع سنوات وهو الشهيد باسم أبو رحمة، ذو الثلاثون ربيعا والذي تناقلت الصحف صورته وهو يركض بالقرب من الجدار جارا وراءه طائرة ورقية تزهو بألوان العلم الفلسطيني وكان من أبرز نشطاء بلعين، وقد سقط يوم 17-4-2009 على إثر تلقيه إصابة مباشرة لقنبلة غاز في ظهره، وقد قالت نائب رئيس البرلمان الأوروبي "لويزا مرغانتيني" بعد الإنتهاء من بناء نصب تذكاري له أثناء مراسم تكريمه عند بوابة للجدار: "لن ننسى باسم أبو رحمة وسنضع صورته داخل مبنى البرلمان الأوروبي تخليدا لروحه الطاهرة". وبالرغم من أن بلعين لم تلحق بإسرائيل خسائر في الأرواح وأنها فقدت شهيدا واحدا فقط، إلا أن هذه بلا شك ميزة إيجابية تُحسب لها، فبفضل أسلوبها المميز في النضال أصبحت هذه القرية رمزا للمقاومة الشعبية وخصوصا في مقاومة الجدار، ليس على المستوى الوطني وحسب بل وعالميا أيضاً، وصارت محط أنظار التضامن الدولي، كما أسهم توحد الأهالي في مقاومة الجدار في تعزيز وحدة القرية وتكافلها وفي تلاشي معظم الإشكاليات الداخلية.

ومن ناحية ثانية فقد وضعت بلعين سمعة إسرائيل الدولية في موقف حرج، فالاحتلال أطلق الرصاص على الأهالي العزل، وأسقط الكثير من الضحايا الأبرياء، ودفع جراء ذلك من سمعته ورصيده على الساحة الدولية، حيث تبددت "أكذوبة الديمقراطية الإسرائيلية" أمام حجارة ويافطات المتظاهرين الفلسطينيين والأجانب، وخسرت إسرائيل الكثير من القوة الأخلاقية التي كانت تدعيها في حربها ضد الفلسطينيين. كما أن تعرض الأجانب للأذى انعكس بصورة سلبية على صورة إسرائيل في الغرب، فمثلا في يوم 24 نيسان 2009 تعرضت الناشطة الإيرلندية "ميريد كوريغان" لإصابة رصاصة في رجلها، وكانت هذه المرة الخامسة التي تزور فيها بلعين، وهي المناضلة العالمية الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1976، وفي نفس اليوم الذي صادف مرور أسبوع على استشهاد باسم أبو رحمة تعرضت نائب رئيس البرلمان الأوروبي "لويزا مركانتيني" لجروح وكدمات متوسطة لتكون هي أيضا شاهدة على عنف الاحتلال، وفي تموز 2008 أصيب أيضا القاضي الإيطالي "خوليو توسكانو"، بجروح متوسطة أثناء مشاركته في مظاهرة احتجاج في بلعين، كما تعرض "ليمور غولدشتاين"، وهو محام إسرائيلي لإطلاق النار في رأسه مرتين برصاص معدني مغلف بقشرة من المطاط، كما شهد فظاعة العنف الإسرائيلي العديد من الشخصيات الاعتبارية العالمية التي زارت بلعين واطلعت على معاناة أهلها من رؤساء سابقين وقادة أحزاب وفنانين وعلماء.

كما كشفت بلعين عن الطبيعة العنصرية التوسعية لإسرائيل أمام مواطنيها أنفسهم، وهذا أدى إلى بروز شرائح سياسية واجتماعية بدأت ترفض هذا النهج العدواني وتعبر عن رفضها بأساليب عديدة، فقد انضم عدد كبير من الإسرائيليين منذ بدء الاحتجاجات إلى سكان القرية في نضالهم السلمي. الناشط جوناثان بولاك، واحد من هؤلاء وهو إسرائيلي يشارك في احتجاجات بلعين كل أسبوع، ويقول أنه يأتي إلى بلعين لأنه يشعر أن ذلك واجبه، وإن ذلك أقل ما يمكن عمله، وصار يشارك في فعاليات بلعين العشرات من الإسرائيليين الذين يرفضون الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي، معتبرين ما يقوم به الجيش من قمع وظلم واحتلال للفلسطينيين غير قانوني، حيث يمارسون ظلمهم على الشعب الأعزل المحتل، ففي مسيرة بلعين الأسبوعية يوم 23-10-2009 عبرت الناشطة الإسرائيلية إميليا (18 سنة) من تل أبيب عن هذا التوجه حيث قالت:" نحن جئنا للتضامن مع أهالي بلعين في نضالهم ضد بناء الجدار وإن هذه الجيش يقوم بقمعهم بصورة وحشية مع أن أهالي بلعين لهم الحق في النضال، لهذا نحن نرفض أن نكون جزءا من هذا الجيش، ونفضل السجن على الخدمة فيه".

وقد أثمرت الجهود السياسية والدبلوماسية على الساحة الدولية في إثارة القضية في المحاكم الدولية، وقد أصدرت محكمة العدل الدولية عام 2004 رأيا استشاريا رأت فيه أن الجدار الذي تقيمه إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بحجة منع النشطاء الفلسطينيين من شن هجمات على أراضيها مخالف للقانون الدولي، ولكن إسرائيل رفضت الاستجابة لهذا القرار.

ونجح أهالي بلعين عام 2007 في استصدار قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية يَنُص على عدم قانونية الجدار في مساره، وأنّ المبررات التى قدمها الجيش الإسرائيلي بحجة أنه بُني لأغراض أمنية غير مقنعة؛ لهذا فقد أوصت المحكمة بهدمه وإعادته إلى الخلف بطول 500 متر أي ما يقارب 1100 دونم، ومن خلال ذلك تمكن الأهالي من إعادة نصف ما هو مهدد بالمصادرة. وقد ذَكَرَ ناطق رسمي باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية يوم 29-4-2009 بأن إسرائيل تنوي تغيير مسار الجدار ما بين نعلين وبلعين الأمر الذي يعني إعادة مئات الدونمات من الأراضي المصادرة لأصحابها، وهذا يعني أيضا إلغاء خطة بناء 1100 وحدة سكنية في حي إستيطاني جديد في مستعمرة "موديعيت عيليت"، وهذا بحد ذاته يعتبر إنجازا هاما لأهل بلعين ونعلين وانتصارا جزئيا لأسلوب النضال المدني الذي اتبعته هاتين القريتين وغيرهما من القرى الحدودية، وبعد صدور قرار المحكمة تمكن أهالي بلعين من إجبار سلطات الاحتلال على هدم بعض البيوت المؤقتة التي أقامها المستوطنون في الأراضي المصادرة وإعادة بعض الكرافانات إلى داخل المستوطنة وفي محيطها.

ومن الجدير بالذكر أن الجدار المقام على أراضي بلعين هو سياج من الأسلاك الشائكة فقط، وهذا خلاف لغالبية المناطق الأخرى من الجدار المبني بالاسمنت الأصم بارتفاع ثمانية أمتار، ويمرّ الجدار الفاصل، الذي أنجز منذ نيسان 2006، من أراضي القرية بطول 2 كيلومتراً وبعرض 30 متراً، ويبعد 5 كيلومتراً عن الخط الأخضر المعروف بالحد الفاصل بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948. ويحول الجدار ما بين أهالي القرية و2300 دونم من أراضي القرية الزراعية زُرع معظمها بأشجار الزيتون (يتراوح عددها من 10000- 15000 شجرة)، ومنذ أن أُنجز الجدار، أغلق الجيش البوابة التي توصل المواطنين بأرضهم وأبقى على قوة عسكرية تتواجد هناك على مدار الساعة مع السماح للمواطنين بالعبور متى يريدون في الليل والنهار بدون تصاريح فقط بمجرد أبراز الهوية الشخصية، وذلك أيضا على خلاف ما حصل في بقية المناطق بالنسبة لعبور المزارعين إلى أراضيهم.

وكان وراء هذه النجاحات المتمثلة في تقليص المساحات التي يتطعها الجدار تضافر جملة من العناصر التي ساهمت في نجاح التجربة وأهمها وجود القيادة الشابة الواعية المثقفة التي حرصت على الوحدة الوطنية، والتفاف سكان القرية حولها ومشاركة معظمهم في الفعاليات مع المحافظة على استمراريتها بروح من الابداع والتجديد في الأفكار، كانت دائما تفاجيء العدو قبل الصديق، وطبعا يظل لوجود المتضامنين الدوليين والإسرائيليين والإعلام الحر الشجاع الدور الكبير والهام.

ولكن من المؤسف أن الإعلام المحلي والعالمي لم يول بِلْعـينْ التقدير والاهتمام الذي تستحقه، ومن المؤسف أيضاً أن خبر بِلْعـينْ لم يعد مثيرا لدى قطاعات معينة من الناس، خاصة أؤلئك الذين يلهثون وراء الأخبار المثيرة ولا يكفّون عن البحث عن أعداء وهميين في أماكن بعيدة. ولو كانت التجربة قد اتّسعت أكثر، ولو كانت لاقت الدّعم المناسب لربما كانت نتائجها تعاظمت.



بلعين .. شهادات ووقائع

لن يكتمل الحديث عن بلعين دون شهادات أصحابها الأصليين .. أولئك المناضلين الذين صنعوا هذه المأثرة وكانت لتضحياتهم ثماراً لا بد أن تعطي أُكلها ولو بعد حين، ومن هؤلاء السيد محمد أبو رحمة، نائب رئيس مجلس قروي بلعين وعضو اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار، والذي زودنا بالكثير من المعلومات التي وردت في سياق هذا البحث، عندما التقيناه كان قد خرج لتوه من السجن، بعد اعتقال تعسفي للمرة الثالثة، حيث داهمت بيته ليلا وتحت جنح الظلام قوة عسكرية تكفي لاعتقال كتيبة مسلحة، وعندما قابلناه كانت آثار الاعتداء بادية على وجهه وتلمسها بوضوح من حديثه عن تجربته التي وصفها بالرهيبة، والتي أشد ما آلمه منها ضربه ومحاولة إذلاله أمام أطفاله وزوجته، كان لنا معه هذا اللقاء :

- تميزت بلعين بنضالها السلمي المدني وباستخدامها أساليب واعية وذكية في إدارة المعركة، إلى جانب طَرْق الأبواب القانونية من خلال المحاكم، فما هي الأسس القانونية التي تستندون إليها في مطالبكم العادلة بالذات تجاه جدار الفصل العنصري ؟

- نستند أولا على حقنا الطبيعي في الدفاع عن أرضنا وعن مستقبل أطفالنا، ونستند أيضاً إلى الشرعية الدولية التي تنص على حق المقاومة، وفيما يخص الجدار هنالك فتوى محكمة العدل الدولية في لاهاي التي أقرت بعدم شرعية هذا الجدار العنصري ووجوب تفكيكه وإعادة الأراضي التي تمت مصادرتها لأصحابها الشرعيين وتعويض أصحاب الأراضي التي تم تجريفها وتدمير أي أثر لبناء جدار الضم والتوسع.

- ما هي أهم الخطوات القانونية التي قمتم بها لمجابهة بناء الجدار ؟

- في البداية تم تقديم اعتراض باسم جميع أصحاب الأراضي التي تقع خلف الجدار وكذلك الأراضي التي يقع عليها الجدار نفسه، الاعتراض الأول قُدم للمحكمة العسكرية الإسرائيلية المقامة في معسكر بيت إيل قرب رام الله، ولكن لجنة الاعتراضات العسكرية رفضت هذا الاعتراض، وبعد ذلك توجّهنا إلى المحكمة المركزية في القدس والتي لم تبت هي الأخرى بها، وأخيرا توجهنا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية باعتبارها أعلى سلطة إسرائيلية، كما توجهنا إلى محكمة العدل الدولية وإلى المحاكم الكندية .

- كيف توصّلتم إلى إنتزاع قرار من محكمة العدل الدولية في لاهاي وكيف يمكن البناء على هذا القرار والإستفادة منه لإرغام إسرائيل على تطبيقه ؟

- نتيجة العمل الدؤوب والمستمر وطَرْق كل الأبواب ورفع القضايا بصورة جماعية للقرى التي تأثرت كبلعين وصودرت أراضيها، وبتجهيز الحجج القانونية والوثائق والبيانات التي تثبت ملكية الأراضي، وبدعم من الأصدقاء والمتضامنين الدوليين، توجهنا للمحكمة الدولية التي بحمد الله أنصفتنا، وقد سبق صدور الفتوى زيارة أعضاء البرلمان الأوروبي أرض الواقع ومشاهدتهم الحقيقة بأم أعينهم وكذلك زيارة العديد من الشخصيات الاعتبارية ونشطاء السلام من خلال المؤتمرات السنوية التي كانت تنظمها بلعين وكانت تستقطب مناصري السلام ومناهضي الاحتلال من داخل إسرائيل ومن المجتمع الدولي، وقد أثمرت هذه الجهود عن دعم العالم الحر لمطالب أهل بلعين وتأييده للنضال الفلسطيني عامة.

- ما هي أهم المكتسبات التي حققتموها من خلال الأطر القانونية والمحاكم الإسرائيلية ؟

- بتاريخ 4-9-2007 وبعد صدور قارا المحكمة الإسرائيلية العليا تم إيقاف بناء مستوطنة متيتياهو الشرقية التي كان قد شُرع ببنائها في فترة الإجتياحات الإسرائيلية 2002 ~ 2003 ، وكذلك إحباط محاولات سرقة الأراضي ومصادرتها لصالح التوسع الإستيطاني والتي استمرت حتى نهاية العام 2005 ، ومن الجدير بالذكر أن كل تلك المحاولات البائسة كانت بدون أي قرار عسكري أو إذن من السلطات الإسرائيلية نفسها ضمن عملية استغلال خسيس للظروف الأمنية الصعبة التي كان يعاني منها الفلسطينيون.

- جميع هذه الجهود تحتاج إلى نفقات ومصاريف كتذاكر السفر والإقامة وأتعاب المحامين ونفقات المحاكم وغيرها، من يتحمل هذه النفقات ؟

- في بداية الأمر كان المجلس القروي هو الذي يتحمل كل تلك النفقات وكانت محافظة رام الله تساهم بتغطية جزء آخر، أمّا نفقات السفر فتكون عادة على حساب الدولة المستضيفة أو الجهة التي وجهت لنا الدعوة، ومؤخرا أقمنا دعوة قضائية على شركتي "جرين بارك" و"جرين ماونت انترناشيونال" في محاكم كندا لأنهما شركتين كنديتين كانتا تساهمان في تنفيذ مخططات إسرائيل التوسعية والإستيطانية، وقد قدمت لنا الحكومة الفلسطينية كل الدعم في هذه القضية وتحملت كامل النفقات من خلال وزارة المالية، وهنالك دعم مالي تلقيناه من متبرعين أجانب تم دفعها مباشرة لمكاتب المحاماة.

- كيف تقيّمون تعاون المحامين مع قضية بلعين ؟ وهل جميعهم فلسطينيين ؟ أم هنالك خبراء ومحامون دوليون ؟

- بالتأكيد كان هنالك تعاون وثيق من قبل المحامين الفلسطينيين ونخص بالذكر مركز القدس للاستشارات القانونية – رام الله وكذلك مؤسسة الحق ونقابة المحامين الفلسطينيين، بالإضافة لمن تم توكيلهم من المحامين مثل الأستاذ حاتم عباس والأستاذة نائلة عطية والمحامي الإسرائيلي ميخائيل سفارد، وكان أيضا هنالك استعانة بخبراء قانون دوليين.

- هل تقوم السلطة الوطنية الفلسطينية بواجباتها تجاه قضية بلعين كما ينبغي وإلى أي مدى أنتم راضون عن أداءها ؟

- نعم، فالسلطة الوطنية تقوم بواجبها على نحو مرضِ سواء من ناحية تقديم الدعم المادي أو المعنوي أو التشجيع الدائم والتغطية الإعلامية وحتى بالمشاركة الفعلية بحضور المسيرات والفعاليات المختلفة وكذلك بالمرافعات القانونية أمام المحكمة الدولية، وهنالك أشكال مختلفة من الدعم والمساعدة قدمتها رئاسة السلطة "ديوان الرئاسة" ووزارة المالية ووزارة العدل والزراعة ومؤسسة بكدار ومؤسسة الشهيد ياسر عرفات وتلفزيون فلسطين وبنك التنمية الإسلامي، علما بأن هذا الدعم جاء متأخرا وتحديدا بعد أن أثبت نضال بلعين جدواه واستمراريته وبعد أن انتزع القرارات الهامة من المحاكم الدولية والإسرائيلية.

- كيف تنظرون للمأزق الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه من خلال إصرارها على سياسة الإستيطان وبناء الجدار من ناحية ومحاولة تجميل صورتها في الإعلام من ناحية أخرى وما تمارسه فعليا من قمع وتعسف ليس فقط ضد السكان بل ضد المتضامنين الأجانب ؟

- لا شك أن الجمع بين نقيضين أمرٌ مستحيل، فالاحتلال لا يمكن أن يكون ديموقراطيا، وإسرائيل لن تستطيع إخفاء صورتها البشعة لأمد طويل، ولا بد أن تنكشف حقيقتها ولو بعد حين، وقد كان للمتضامنين الأجانب والتغطية الإعلامية دورا هاما في هذا السياق. فقد كشفت كاميرات الصحافة وشهادات النشطاء عن أساليب قمعية تمارسها سلطات الاحتلال بكل وحشية وهمجية، مخالفةً بذلك كل المواثيق والقوانين الدولية، فما تقوم به بلعين عبارة عن مقاومة مدنية سلمية بأدوات وأساليب حضارية دون أن تستخدم العنف، أما ما تقوم به سلطات الاحتلال فهو أعلى درجات العنف والقهر ضد مدنيين عزل، وهذا الأمر لفت انتباه حركات السلام الإسرائيلية وكل القوى المناهضة للعنصرية والاحتلال ليس في إسرائيل وحسب بل وعلى مستوى العالم بأسره، وأحدث تغييرا هاما في الرأي العام العالمي وبنظرة العالم تجاه إسرائيل وكشف زيف إدعاءاتها وطبيعتها العنصرية .

مقابلة أخرى

عبد الله أبو رحمة، منسق اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار، شاب مفعم بالحيوية والنشاط منحدر من أسرة قروية بسيطة يعمل مدرساً في إحدى المدارس الخاصة، هو اليوم من بين أشهر قيادات العمل السلمي ونشطاء السلام في العالم. فمنذ أن غرست جرافات الاحتلال أسنانها في أراضي قريته تغيرت حياته بالكامل، وأصبحت على كف عفريت، أصيب بالرصاص المعدني والمطاطي عدة مرات، علاقاته متشعبة كالأخطبوط، تراه يواصل الليل بالنهار، هاتفه النقال لا يكف عن الرنين، يتواصل مع المتضامنين من أربع رياح الأرض ينسق لهم وصولهم ويمنحهم جل وقته وقد وهب منزله في القرية كمضافة لاستقبالهم ولتنظيم الفعاليات والمسيرات، وبعد أن تولت المخابرات الإسرائيلية ملف بلعين ووضعت نصب أعينها هدفا محددا: القضاء على تجربة بلعين، وعلى إثرها بدأت باعتقال النشطاء وتحديدا أعضاء اللجنة الشعبية، وبالذات عبد الله أبو رحمة الذي جهزت له لائحة اتهام تضمن له فترة طويلة في غياهب المعتقلات لتضاف إلى ثلاثة تجارب اعتقال سابقة، ومن يومها صار أبو رحمة مطاردا، وهكذا وبعد أسبوع من المحاولات الحثيثة كان لنا معه هذا اللقاء :

- من المعلوم أن جدار الضم والتوسع يمر عبر عشرات القرى ويصادر آلاف الدونمات، وقد تصدت جميعها لمخططات الاحتلال التوسعية، ولكن بلعين تميزت وشقت طريقها على نحو مختلف وأصبحت نموذجا للمقاومة الشعبية السلمية، فما هو سر بلعين ؟ وأسباب تميز هذه التجربة ؟

- الشعب الفلسطيني خبر المقاومة الشعبية بكافة أساليبها منذ أن وطأ الصهاينة أرض فلسطين، وكانت له محطات نضالية حفرت مآثرها على ذاكرة شعبنا بأحرف من نار ونور، لم تكن بدايتها ثورة أل 36 وإضرابها الشهير ولم تكن نهايتها انتفاضته الكبرى في نهاية العام 1987، وما بلعين إلا استمرار لهذا النهج من التضحية والبطولة، ولكن ما ميز بلعين هذه المرة هو أنها ركزت على مقاومة مشاريع الاحتلال التوسعية، ونأت بنفسها عن الدخول في الصراعات الداخلية ومناكفات الفصائل، ومن حيث الأسلوب خطت لنفسها طريق اللاعنف، بوسائل وأدوات مبتكرة متجددة على الدوام وبالتفاف شعبي حول الهدف ومساندة واضحة من المتضامنين الأجانب مع حضور قوي للصحافة والإعلام.

- كيف يمكن لك أن تصف بدايات التجربة ؟

- معظم قيادات ونشطاء بلعين هم ممن خبروا الانتفاضة الأولى واستفادوا من تجربتها التي ظلت ماثلة في أذهانهم ثم ما لبثت أن استحضرت نفسها عندما حانت ساعة الحقيقة، فعندما بدأ الاحتلال بتنفيذ مخططاته التوسعية قررنا البدء فورا بالتصدي لها ليس على مستوى الخطابة والتنديد، بل على أرض الواقع وفي الميدان، وكنا نسابق الجرافات ونتصدى لها بأجسادنا، في البدايات ظن كثيرون أنها هبة عاطفية سرعان ما ستنطفئ، والبعض شكّك بجدوى هذه الأساليب، والبعض ظل متفرجا، ولكن بعد أن بدأوا يرون نتائج مبشرة ويتلمسون بصيص أمل بإمكانية التغيير، تغيرت القناعات وإزداد الإلتفاف الشعبي وانخرط الجميع في الفعاليات النضالية، ومع الوقت بدأ المجتمع الدولي يلتفت لنا ويؤمن بعدالة قضيتنا وشرعية أساليبنا في الكفاح.

- إلى مدى تقبل الأهالي وجود أجانب بينهم مختلفون معهم في الثقافة والعادات، وبالذات وجود إسرائيليين ويهود ؟

- بداية لم يتقبل الأهالي فكرة وجود أجانب وبالذات من اليهود والإسرائيليين، إذْ كان مسيطرا على عقلية الكثيرين منهم أن كل يهودي هو صهيوني بالضرورة ويدعم إسرائيل وبالتالي يتوجب مقاومته. ومنهم من ظن أنهم من المخابرات الإسرائيلية، أو أنهم مجرد مغامرين مترفين يريدون أن يتسلوا ويقضوا وقتا مثيرا. ولكن مع استمرارية وجودهم بيننا وبعد التعامل معهم عن قرب، وبعد أن رأوا ما يتعرضون له من قمع وضرب وخطر حقيقي مثلهم مثل أي فلسطيني، وأن الرصاص وقنابل الغاز لا تميز بين فلسطيني وأجنبي، خاصة بعد أن أصيب العديد منهم إصابات خطيرة، بدأت قناعات الناس تتغير وبدأوا يتقبلون وجودهم بل ويرحبون بهم وصاروا يفتحون لهم بيوتهم ويتقاسمون معهم الطعام والشراب، ويتشاركون معا بالمعاناة والسهر والتصدي لجرافات الاحتلال وجنوده وآلياته.

- من أين يأتي هؤلاء المتضامنون الأجانب ؟ وما هي خلفياتهم الاجتماعية والثقافية ؟

- يأتون من كل البلدان، أكثرهم من الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، وكندا، وروسيا، وأمريكا اللاتينية، وشرق آسيا، وأستراليا . أغلبهم من الطبقات المسحوقة، متعلمين ومثقفين، منهم أساتذة جامعات وطلبة وأطباء ومحامون وموظفون وعاطلون عن العمل. قلة قليلة منهم من الطبقة الميسورة، أحدهم بعد أن أمضى بيننا قرابة العام وكنا نظنه فقيرا بعد أن غادرنا تبرع لنا بمبلغ ثلاثين ألف دولار، منهم يهود ومسيحيين وبوذيين ولا دينيين وعبثيين، ما يجمعهم هو رفضهم للظلم ومقاومتهم للاحتلال ومناهضتهم لكل أشكال الاستغلال والقهر والتمييز العنصري، وقد آمنوا بعدالة القضية الفلسطينية وتعاطفوا مع كفاح أهلها وتركوا حيواتهم الخاصة بكل ما فيها من دعة ورفاهية وخصوصية وجاؤوا ليعبروا عن مواقفهم المبدأية وليمارسوا قناعاتهم بملء إرادتهم، بالرغم مما تنطوي على هذه الخيارات من مخاطر وتحديات وشظف للعيش وبُعد عن الأهل والخلان وحتى خسائر مالية شخصية، إذ أن كل منهم يسافر ويقيم على نفقته الخاصة.

- من الذي يبتكر الأساليب والأفكار المدهشة التي نراها في المسيرات ؟ وكيف تقومون بتنسيق هذه الفعاليات ؟

- نقيم بصورة دائمة اجتماعات تنسيق لأعضاء اللجنة الشعبية يشارك فيها أحيانا النشطاء والمتضامنين الأجانب، وفي هذه الاجتماعات يتم طرح الأفكار ودراستها وتوفير متطلباتها من أدوات ومعدات وأعلام، وفي يوم المسيرة والذي غالبا ما يكون يوم الجمعة يتم التحضير في المنزل الذي خصصناه لتنظيم الفعاليات وبعد الصلاة تنطلق المسيرة كما كان مخططا لها، وفي كل مرة نحاول أن نجترح أفكارا جديدة للفت الإنتباه وإفهام العدو أن لدينا من الأساليب ما يكفي لإدامة الكفاح سنين طويلة وأننا لم ولن نتعب حتى نحقق أهدافنا العادلة.

- ما هو دور الفصائل الفلسطينية في إثراء تجربة بلعين الكفاحية ؟ ودور المنظمات والمؤسسات الأهلية ؟

- حتى اليوم تقتصر مشاركة الفصائل الفلسطينية على المشاركات الفردية أو الحضور الرمزي في الفعاليات المركزية، حيث يشارك بعض القيادات المعروفة لتلك الفصائل خاصة فتح، المبادرة الوطنية، الشعبية، حزب الشعب، وكان يداوم على الحضور القيادي البارز من حماس حسن يوسف عضو المجلس التشريعي عن رام الله، إلا أنه بعد اعتقاله من قبل الاحتلال تقلص حضور حماس بشكل واضح، ولم تتبنى الفصائل الفلسطينية فعليا نهج بلعين في المقاومة الشعبية وإن كانت توافق عليه وتكيل له المديح، بعض التنظيمات تعتبر أن أسلوب بلعين هو بديل بائس عن العمليات "الجهادية" وترفض اللجوء للمحاكم الإسرائيلية ولا تؤمن بجدوى المقاومة السلمية!!. أما المؤسسات الأهلية فقد ساهمت بدعم بلعين من خلال مشاريع تنموية في مجال البنية التحتية كحفر آبار وشق طرق وبناء مدارس، أحد المواطنين تبرع بمائة ألف دولار لبناء مدرسة، وطبعا هنالك دعم واضح من المؤسسات الحقوقية، العديد من القيادات الوطنية واليسارية يحضر إلى بلعين ويشارك في الفعاليات.

- ما هي أهم الأحزاب والحركات الإسرائيلية التي تشارككم النضال ضد جدار الفصل العنصري ؟ وهل يمكن أن تشكل بداية نهوض جديدة لما يُعرف بمعسكر اليسار وقوى السلام في إسرائيل ؟

- معظم المتضامنين من الجانب الإسرائيلي يأتون كأفراد بمبادرات شخصية، وهنالك حضور لافت لحركة "تحرريون ضد الجدار" وحركة "السلام الآن"، ولا شك أن كفاح بلعين السلمي قد أنعش إلى حد ما قوى السلام الإسرائيلية ومنحها الفرصة أو على الأقل وفر لها الركيزة المعنوية التي يمكن البناء عليها، ولكن إلى الآن ما زالت قوى السلام في إسرائيل في حالة غياب تاريخي وتحتاج إلى وقت طويل لتنهض من جديد سيما بعد أن شرب الجميع من نهر الجنون والتطرف.

- ما هي طبيعة علاقتكم الشخصية أو من الناحية العملية بالسلطة الفلسطينية، وهل تتلقون الدعم والمؤازرة منها ؟

- شخصيا أنا أنتمي لحركة "فتح" وتربطني علاقات وثيقة بالعديد من مسؤولي السلطة، وقد قدّم لنا الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء كل الدعم وأوصى بأن تبقى أبوابه مفتوحة لنا في أي وقت، ونحن راضون إلى حد ما عن مستوى الدعم الذي تقدمه السلطة لبلعين لتمكينها من تحقيق أهدافها ومن نقل تجربتها إلى قرى أخرى، خاصة وأن المقاومة الشعبية هي الشكل الوحيد من أشكال المقاومة المتاح ضمن معطيات المرحلة.

حركة التضامن الدولية International Solidarity Movement ISM

قد لا يكون لحركة التضامن الدولية هدف محدد لتأليب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، أو لكشف زيف إدعاءاتها بأنها واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط، وفضح طبيعتها العنصرية. وإنما هدف الحركة مساندة الفلسطينيين في كفاحهم ضد الاحتلال منطلقين في ذلك من إيمانهم بعدالة قضيتهم ومن رفضهم لمنطق الظلم والاحتلال، ولكن من المؤكد أن شهادات نشطاء الحركة والحملات الإعلامية التي تغطي مشاركاتهم وفعالياتهم تقوض الركائز الموضوعية التي تقيم إسرائيل روايتها عليها، وتضع صورة إسرائيل أمام الغرب على المحك، وهذا ما يثير حفيظة إسرائيل وقلقها بل وإنزعاجها من وجودها على أرض فلسطين، وإزاء هذا الوضع حاولت السلطات الإسرائيلية كل جهدها في منع المتضامنين الأجانب من دخول الأراضي الفلسطينية أو في تقييد حركاتهم. ولكن هذه الحملات لم تثن المتطوعين ولم تردعهم، وفي هذا السياق لجأت قوات الاحتلال لأسلوب الاحتجاز والتحقيق، ومعاملة المتضامنين بطريقة غير حضارية كمصادرة الجوازات وتفتيش الحقائب وتوجيه التهم إليهم بدعم الإرهاب والتوقيع على وثيقة لكل من يعبر المطار بعدم دخول الضفة الغربية أو إقامة أي صلة مع الفلسطينيين. وأحيانا إرغامهم على العودة ومنعهم من دخول الأراضي المحتلة، رغم أن نشاطات هؤلاء المتضامنين غالبا ما تستهدف مساعدة المزارعين الفلسطينيين على الوصول لأراضيهم. وذكرت لنا المتضامنة الكندية "نيتا" - والتي هي بمثابة المسؤولة الأولى عن تنسيق حركة ونشاط المتضامنين داخل الأراضي الفلسطينية – بأن سلطات الاحتلال قد منعت المتطوعة البريطانية "الين توماس" من دخول الأراضي المحتلة للمرة الرابعة على التوالي وذكرت أنه خلال التحقيق معها من قبل وحدة مكافحة الإرهاب في المطار طلبوا منها التوقيع على تعهد بالبقاء في إسرائيل وعدم إجراء أي اتصال مع الفلسطينيين، وعندما قمنا بالاتصال معها بدى في صوتها حنين لفلسطين وفرح خفي لأن هناك من يهتم لأمرها من داخل فلسطين، أجابت بأنها رفَضَت التوقيع وقالت لهم: "أنا قادمة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإجراءاتكم هذه مخالفة للقانون" وعلى إثرها وضعوها بالطائرة وأبلغوها بمنعها من دخول المناطق للأبد.

على نفس الصعيد ذكرت لنا "نيتا" بأن قوات الاحتلال تلجأ بين الحين والآخر لاعتقال عدد من المتضامنين خلال تواجدهم في الضفة الغربية وتقوم بإبعادهم، وذكرت بأن المتطوعة النرويجية "ايفانا" اعتقلتها قوات الاحتلال مع ثلاثة متطوعين ألمان لمدة يومين ثم جرى إبعادهم وإبلاغهم بمنع دخولهم للضفة الغربية. كما يتعرض المتطوعين لاعتداءات بالضرب بشكل وحشي مما أدى لإصابتهم بجروح متفاوتة، ورغم ذلك قال المتطوع الألماني "بيرننغ ذيباوس" والذي أصيب بجروح في وجهه خلال مشاركته في مسيرة بلعين: بإمكانهم أن يستخدموا كل السبل لمحاربتنا ولكن نحن نؤمن برسالتنا الإنسانية وواجبنا لدعم الشعب الفلسطيني حتى يعيش بحرية وكرامة ككل شعوب العالم.

المتضامنة الأمريكية "ساشا" وهي يهودية من أصل روسي، شابة في العشرينات طالبة جامعية لأبوين يعتبران نفسيهما صهيونيين مؤمنين بإسرائيل، كان بإمكانها قبول العرض الإسرائيلي منحها الجنسية وكل ما يترتب عليها من إغراءات مادية، ولكنها رفضت واعتبرت أنه ليس من حقها الإستيلاء على أرض الغير. إلتقيناها في شقة بسيطة مؤجرة لصالح الحركة في مخيم قدورة وسط رام الله تُستخدم أيضا كمركز إعلامي ، وكانت تتحدث ببعض الكلمات العربية بعفوية تعكس روحها المرحة، قالت أنها جاءت لفلسطين - رغم معارضة أهلها - لتفهم ماذا يعني الاحتلال على أرض الواقع؟ ولتختبر بنفسها صدقية الدعاية الصهيونية في أمريكا التي تصور إسرائيل كضحية للإرهاب الفلسطيني، وأضافت: لقد صُدمت بأن العكس تماما هو الصحيح، ورأيت وحشية الاحتلال ومدى قسوته، فقد شاهدت مقتل خمسة فلسطينيين أمام عيني، ورأيت ذات مرة جندي إسرائيلي يجبر فلسطينيين على الزحف على بطونهم عند أحد الحواجز، كما عشت مع مناضلة مقدسية تُدعى "أم كامل" مدة شهرين التي هُدم منزلها، ورأيت كيف يصبح المقدسي بلا مأوى بين عشية وضحاها، وأن هذا بحد ذاته أقسى أشكال العنف، وقالت أنها لا تؤمن بالعنف ولكنها بدأت تتفهم أسباب ودوافع العنف الفلسطيني ضد الاحتلال ولكنه لن يكون خيارها الشخصي، وترى أنه ليس أمام الفلسطينيين سوى التظاهر والاحتجاج.

وعن رأيها بالفلسطينيين قالت "ساشا" أنهم شعب دافئ ومحب للحياة ولديهم كرم غير عادي، وفي خضم المظاهرات يقوم الشبان بحمايتها والطلب منها الابتعاد عن المواقع الخطرة، وأن أشد ما أثار إعجابها هو قدرة الفلسطيني على التكيف مع واقعه المرير وأنه قادر على الحب والسهر والمرح بالرغم من كل ما يحيط به من قهر وإذلال، وأن هذه الروح الفلسطينية هي سر صمود الشعب وستكون سبب انتصاره في تحقيق أهدافه الوطنية، وأنها ستحرص على نقل الصورة الحقيقية لمجتمعها بعد عودتها إلى ديارها.

وفي نفس الشقة تقيم متضامنات قدِمْنَ من السويد وبريطانيا وكندا وفرنسا واليمن، وقد أكّدن أنهن يشعرن بالأمان الكامل في شوارع المدن الفلسطينية، وأنهن أحببن الشعب الفلسطيني لطيبته وكرمه ولروحه المرحة. وهناك التقينا مع "ليلى" وهي شابة في أوائل العشرينات يهودية أمريكية من أصل يمني، وقد أكدت لنا "ليلى" إيمانها بعدالة مطالب بلعين وأنها قَدِمَت للأراضي الفلسطينية للتعبير عن تضامنها مع الفلسطينيين وعن رفضها للإحتلال وللعنف. والتقينا أيضا مع "إيفا" من جمهورية التشيك، شابة في نهاية العشرينات تعمل مديرة مكتب في إحدى الشركات الخاصة في لندن، قدمت إلى فلسطين قبل ثمانية أشهر بعد أن راعها ما رأته من دمار وقتل في العدوان الإسرائيلي على غزة مطلع العام 2009، وقالت أنها صُدمت أكثر ببشاعة الاحتلال بعد ما رأت الحواجز العسكرية وما يحدث عليها من إذلال ومعاناة، وبعد أن رأت هدم البيوت خاصة في القدس لأسباب واهية وكيف يكون وضع العائلة عندما تفقد منزلها وتبيت في العراء، و"إيفا" تحرص باستمرار على المشاركة في مسيرة بلعين الأسبوعية وقالت أنها تشجع كل أحرار وشرفاء العالم على القدوم إلى فلسطين ليتأكدوا من كذب الإعلام الصهيوني وليروا حجم الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيين، وأكدت أنها لا تبحث عن المغامرة والإثارة ولا تتوقع أن تجد المرح والتسلية في مواقع الإشتباك، وأنها لا تنتظر مكافأة على ما تقوم به، لأنها مؤمنة بضرورة التضامن مع المظلومين والمقهورين في الأرض وفي مقدمتهم الفلسطينيين. وفي زيارتنا الثانية للشقة التقينا بالشاب "جوناثان" من السويد وبالناشط الأسترالي "مكارثي" الذي تجاوز الستين من عمرة، وقد عبرا عن سعادتهما بوجودهما على أرض فلسطين وعن إعجابهما بنموذج بلعين السلمي، وقال "مكارثي" يجب أن تستمر الجهود حتى يزول الجدار كما زال جدار برلين من قبل.

المتضامنة الكندية "نيتا" واحدة من مؤسسي حركة التضامن الدولية ISM ومن اللواتي رافقن تجربة بلعين منذ البدايات، تقيم حاليا في رام الله وهي أم لثلاثة أطفال، حاول الإعلام الصهيوني النيل منها خاصة بعد أن مكثت شهرا كاملا في مقر المقاطعة أيام حصار المرحوم الشهيد ياسر عرفات في ذروة العدوان الإسرائيلي على مدن الضفة وبالذات مدينة رام الله. تزوجت من فلسطيني وتعلمت العربية، وفي جولاتها العديدة للتضامن مع الفلسطينيين ومقارعتها جنود الاحتلال كُسرت يدها ذات مرة واستنشقت كميات كبيرة من شتى أنواع الغاز المدمع، وتعرضت للإعتقال ثلاثة مرات، وأصيبت بجروح وكدمات عديدة، وعندما حاولت سلطات الاحتلال إجبارها على التوقيع على تعهد بعدم دخول الأراضي المحتلة رفضت بشدة. وهي مناضلة عنيدة ومثقفة إلى حد كبير ولها فلسفتها السياسية ورؤيتها الخاصة للحياة، وتقول أنها لم تصدق الرواية الإسرائيلية للتاريخ منذ أن كانت يانعة، إذا استغربت كيف يدونون تاريخ المنطقة قبل ألفين وخمسمائة عام ثم ينتقلون فجأة إلى أيام اضطهاد اليهود في أوروبا، وما بين الحـقبتين مختفي تماما ولا أثر لمن عاشـوا هنا طوال آلاف السنين !! وكيف لمن يدعي أنه عانى من الظلم يقوم بظلم الآخرين ويسطوا على أرضهم ويصادر مستقبلهم بعد أن نفاهم من التاريخ !!

وعن تجربتها في تأسيس حركة التضامن الدولية ISM تقول أن الحركة تأسست مع بدايات الانتفاضة الفلسطينية أواخر العام 2000 بمبادرة من مجموعة من الشبان الأجانب ومن ضمنهم إسرائيليين مناهضين للإحتلال، وأول عمل قاموا به هو الدخول إلى معسكر للجيش الإسرائيلي في بيت ساحور ورفع العلم الفلسطيني على أعلى برج المراقبة والاحتجاج على وجود المعسكر نفسه، الأمر الذي نجح في تفريغ المعسكر من الجنود وإجبار سلطات الاحتلال على نقله إلى مكان آخر، ثم بعد ذلك توالت النشاطات والفعاليات وإزداد عدد المتضامنين حيث حضر إلى مقر المقاطعة 500 متطوع أجنبي دفعة واحدة في العام 2002، وكانت آخر مجموعة كبيرة ضمت أكثر من 400 ناشط دخلت الأراضي المحتلة في أواخر العام 2003، إذْ بعدها تنبهت إسرائيل لهذه الظاهرة وصارت تمنع دخول أي متضامنين على شكل مجموعات.

في معظم أيام السنة يتواجد في الأراضي المحتلة عادة نحو المائة متضامن أجنبي من مختلف الجنسيات والملل، هذا العدد يزداد في مواسم قطف الزيتون وفي الصيف وفي الأحداث الكبرى، وحتى يقوم هؤلاء بواجبهم في حماية الفلسطينيين ومساندتهم يجب أن يتم توجيه دعوة لهم للحضور في المكان والزمان المطلوبين، ويقتصر عملهم على أشكال الدفاع السلمي بدون عنف. وهم يعملون ضمن هذه الرؤية بروح الفريق الواحد دون وجود تراتبية قيادية، فهذا النمط من العمل التطوعي يحتاج إلى إيمان شخصي وقناعة ومبادرة ذاتية، وجميع المتضامنين يسافرون على نفقتهم الخاصة ولا يتلقون رواتب أو مكافئات، وترفض الحركة تلقي أي تبرعات من أي جهات حكومية، والحركة مستعدة للعمل مع أي جهة فلسطينية شريطة أن لا تفرض عليها أية أجندة سياسية. وهي تنأى بنفسها عن التدخل في الشؤون السياسية الداخلية ولا تميز بين جهة وأخرى ولا تنحاز لطرف ضد الآخر، وتقول "نيتا" أنها تتمنى لو أن لدى الحركة إمكانيات مادية لتغطية نفقات متضامنين من أفريقيا ومن أوروبا الشرقية يريدون القدوم والمشاركة ولكن ظروفهم المادية لا تساعد على ذلك.

والمتضامنون لا يقتصر دورهم على تقديم أشكال مختلفة من الدعم والمساندة للفلسطينيين، وهي مهمة بلا شك محفوفة بالمخاطر وليست نزهة بين الورود، فقد قتلت سُلطات الاحتلال المتضامنة الأمريكية "راشيل كوري" عندما كانت تحاول منع جرافة إسرائيلية من هدم منزل لعائلة في رفح. ثم تبعها رفيقها "توم هنرو" البريطاني الذي لم يكمل عامة الثالث والعشرين، حيث قصفت مدفعية إسرائيلية ساحة ملعب يتواجد فيه عددٌ من الأطفال، فما كان منهم إلا أن فرّوا مسرعين باستثناء طفلين جمّد الخوف عروقهم وشلّ الرعب أطرافهم فقدم "توم" لمساعدتهم على الهرب ولكن القذيفة كانت له بالمرصاد فقُتل على الفور، حدث هذا بعد ثلاثة أسابيع من استشهاد "رايتشل كوري" وأيضا في رفح. وفي جنين أُصيب المتضامن الأمريكي "براين إيفي" برصاصة في وجهه، على إثرها فقد معالم وجهه بالكامل، وفي بلعين تعرض المتضامن الأمريكي "كريستين أندرسون" لقذيفة صاروخ محمل بقنبة غاز أصابه في رأسه وهو الآن في حالة موت سريري في مستشفى تل أبيب.

البعض ممن حالفهم الحظ ولم يصابوا بأذى مباشر من الاحتلال، آثر على نفسه إلا أن يقدم شكلا ملموسا من الدعم المادي، أراد أن يعبر عن ذلك ليس بالكلمات بل عبر جسده، الناشطة "آنّـا" من جنوب إفريقيا شابة في مقتبل العمر، سمعت عن الطفلة الفلسطينية "لينا" إبنة الأحد عشر ربيعا والتي تعاني من فشل كلوي فقررت أن تتبرع لها بكليتها، ولحسن حظ الطفلة وعائلتها فقد سمحت نتائج الفحوصات المخبرية بالقيام بالعملية، وبعد خروجها من المشفى قالت "آنّـا" إنها فعلت ذلك لإرجاع البسمة على شفتي لينا وللتعبير عن محبتها للشعب الفلسطيني.

ما زالت قصة "آنّا ولينا" يتناقلها أهالي بلعين وسلفيت والقرى المجاورة، وستبقى رمزا للتواصل الإنساني العابر للحدود، وستبقى تضحيات هؤلاء المتضامنون الأجانب نبراسا في سماء الإنسانية في كفاحها ضد الظلم والعدوان، وشاهدا على عدالة قضيتنا، وستبقى دماء الشهداء في كل مكان أيقونة في سماء الحق حتى تغطي شمس الحرية أفق الكون.

أرقام وحقائق

طول الجدار 770 كم يعزل خلفه 29 قرية بالكامل بمساحة 216567 دونم، ويسبب الضرر لِ138 قرية بمساحة 554370 دونم ، أي ما مجموعه 770937 دونم، وهي تشكل حوالي 12.6 % من إجمالي مساحة الضفة الغربية والتي تبلغ 5661 كم مربع، وأهمية تلك الأراضي كونها مصادر للمياه الجوفية أو كونها تحيط بالقدس أو كونها تشكل سلة الخضار الرئيسية في الضفة الغربية وخصوصا في منطقة الغور.

بالاضافة إلى المستوطنات التي تمزق أوصال الضفة الغربية والطرق التي تربط هذه المستوطنات بمنطقة ما وراء الخط الأخضر، هنالك ما يزيد عن 500 حاجز عسكري الهدف منها تمزيق الوطن وتقسيمه إلى جزر وكنتونات، يحول دون إمكانية إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافية.

الأحداث في سطور:

• أعلنت إسرائيل عن نيتها إقامة الجدار في 18-6-2002 على إثر عملية فدائية نجم عنها مقتل عشرات الإسرائيلين.

• دخلت الجرافات الإسرائيلية أراضي بلعين لبناء الجدار 20-2-2005.

• خرجت أول مسيرة احتجاج ضد الجدار من بلعين في نفس اليوم 20-2-2005.

• أول شهيد لبلعين في الانتفاضة الحالية هو باسم أبو رحمة استشهد في 17-4-2009.

• أنجز الجدار على أراضي بلعين منذ نيسان 2006، بطول 2 كلم وبعرض 30 م، وعلى بعد 5 كلم من الخط الأخضر.

• 9 تموز 2004 صدور أول قرار عن محكمة العدل الدولية بعدم شرعية بناء الجدار في الأراضي الفلسطينية.

• 4 أيلول 2007 صدور قرار بعدم شرعية مرور الجدار في أراضي بلعين عن المحكمة العليا الإسرائيلية.

• 23 حزيران 2009 تحويل ملف بلعين وأمن الجدار والمستوطنات من الجيش والشرطة إلى المخابرات الإسرائيلية.

• حزيران 2009 طرح قضية جدار بلعين أمام المحاكم الكندية ورفع دعوى قضائية ضد شركات كندية ساهمت ببناء الجدار.

المراجع:

1. المواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية للجنة الشعبية لمقاومة الجدار، حركة التضامن الدولية، جمعية أصدقاء بلعين.

2. خالد منصور، دنيا الوطن، كي لا تنطفئ شعلة بلعين، 3-10-2009.

3. عبد الله أبو رحمة، المركز الفلسطيني للإعلام والأبحاث والدراسات – رام الله، نموذج بلعين في المقاومة الشعبية، 11-5-2008.

4. عريب الرنتاوي، جريدة الدستور الأردنية، العدد 14857، لماذا لا يعمم نموذج بلعين ونعلين، 25-9-2009.

5. هاني المصري، جريدة الأيام الفلسطينية، انتصار بلعين نموذج للمقاومة الشعبية، 8-9-2007.

6. معتصم حمادة، المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات – رام الله، بلعين بقايا الماضي أم إرهاصات المستقبل، 17-9-2009.

7. طلعت الصفدي، الموقع الإلكتروني للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، بلعين والكفاح الجماهيري، 1-11-2008.

8. عبد الغني سلامه، مجلة تسامح، العدد 22، أيلول 2008/ إصدار مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، مقالة بعنوان جدلية العلاقة بين المقاومة والتحرر الوطني.

9. د. عبد المجيد سويلم، قضية المقاومة والمراجعة المطلوبة، صحيفة الأيام الفلسطينية 22/5/2008.



للمزيد من المعلومات والصور والأخبار المتجددة زوروا المواقع التالية:

http://palsolidarity.org/

www.bilin-village.org

contact@bilin-village.org

bel3en@yahoo.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق